نذالة غالب جامعيي العرب علاماتها البينة التي لا تكذب
أبو يعرب المرزوقي
في العالم كله شرقيه وغربية وليس في عصرنا الحديث وحده بل منذ القدم لا توجد نخبة تمثل المعرفة في عصرها لم تكن قائدة لثورات الشعوب ليس بالأقوال فحسب بل وأيضا بالأفعال إلا عند زعماء الحداثيين سواء كانوا من المنتسبين إلى الجامعات الدينية أو إلى الجامعات الدنيوية من عرب عصرنا: فهم أذل خلق الله وأكثرهم “تلحيسا” وطمعا في فتات موائد المافيات الحاكمة والماسكة برقاب الشعوب.
فما السر؟
ما الذي يجعلهم في اكثر من الغيبوبة المزمنة يرون البلاد ذاهبة إلى اللبننة دون أدنى حركة تعبر عن الاحتجاج السلمي لحماية شروط الحرية والكرامة؟
هل لأنهم لا يريدون مغادرة “محراب” العلم والتفرغ لما هو اسمى في نظرهم أم لأنهم ربوا على الذل والمهانة بعلامتيهما السائدتين أي خدمة أي منقلب:
- طمعا في فتات الموائد وبعض السلطة واستغلالها المقيت
- لقهر المتعلمين وتعييرهم بجعلهم خدما لهم وقوادة مثلهم؟
الجواب خلدوني أيضا حتى وإن كنت اكثر من الاستناد إلى تحليلاته التي ظنها الحمقى لا تتجاوز عصره.
ففي الفصل الأربعين من الباب السادس والأخير من المقدمة حدد ابن خلدون العلتين اللتين هما بعدا الاستراتيجيات السياسية وحلل تعليله فيها مع ضرب أمثلة عامة وخاصة بالمسلمين.
والجواب الخلدوني كما سنرى مضاعف ولنبدأ بثانيهما وقد ورد في الفصل الأربعين وهو ينتسب إلى الاستراتيجيات السياسية التي يقابل فيها بين نوعين:
- استراتيجية التربية والحكم التي تنمي معاني الإنسانية لتكوين الإنسان الحر والكريم: استراتيجية التربية والحكم اللطيفين.
- استراتيجية التربية والحكم التي تفسد معاني الإنسانية لتكوين الإنسان العبد والذليل: استراتيجية التربية والحكم العنيفين.
أما الجواب الأول فقد ورد في الفصل السادس من الباب الثاني بعنوان “في أن معاناة الحضر -بحق أو زاعميه تقليدا- للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة” مستعملا قياسا معكوسا لما جاء في الفصل أربعين من الباب السادس.
استبدل قيس استراتيجية الحكم على استراتيجية التربية العنيفتين المؤديتين إلى العبودية والمذلة بقيس استراتيجية التربية على استراتيجية الحكم اللطيفتين ا لمؤديتين إلى الحرية والكرامة.
واختم بنصه الثاني لأن الأول مشهور ولعله معلوم للكثير من قرائه وإن كانوا يقفون عند حدود الكلام في التربية العنيفة ولا يرون قيس الحكم العنيف عليها والعلاقة بين التربية والحكم وبوصفهما استراتيجية كل سياسة لطيفة كانت أو عنيفة.
يقول ابن خلدون:
“ونجد أيضا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا ولا يكادون يدافعون عن انفسهم عادية بوجه من الوجوه.
وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشائخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس.
ولا تستنكر ذلك بما وقع مع الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صلوات الله عليه لما اخذ المسلمون عليه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من التغيب والترهيب ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون انفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق.
فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أضفار التأديب والحكم. قال عمر رضي الله عنه “من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله”.
وقد قابل ابن خلدون في هذا النص بين نوعين من الوزع:
- وزع الوازع الذاتي أو الضمير وهو الوزع الذاتي اللطيف.
- ووزع الوزع الخارجي أو الأحكام السلطانية وهو الوزع الأجنبي العنيف.
وهنا نفهم الانطباق على النخب الجامعية العربية بنوعيها أي المعلمين والمتعلمين: فالموات علته ما وصف ابن خلدون أي غياب الوزع الذاتي وحضور الوزع الأجنبي.
وكان ينبغي أن يضيف ابن خلدون -لو كان بيننا- العوامل النفسية والاجتماعية:
- فنفسيا الخوف وحده لا يكفي لفهم الظاهرة بل ينبغي أن يضاف إليها الطمع وخاصة عند المعلمين منهم. فكلهم يطمع في فتات الموائد.
- واجتماعيا فجل أساتذة الجامعات العربية من الأوساط الشعبية بعد تعميم التعليم لذلك فجلهم “جوعى” ومن ثم فالطمع في الفتات والخوف من فقدان مزايا “القوادة والتلحيس”.
أما ما تضيفه صفة “الحداثيين” فهو ما يجمع بين النفسي والاجتماعي:
فكلما كان الإنسان من وسط قريب من البداوة المستعبدة كان اكثر تبعية لتقليد قشور الغالب بلغة ابن خلدون ظنا أنها هي علة غلبته.
وكلما كان من وسط قريب من “الجوعى” كان اكثر طمعا للخضوع لما يمكن أن يمده بالفتاة من المال والسلطة التي يستعملها لأذلال من يعتبرهم دونه منزلة:
المعلم الذي يذل المتعلم ويسخره للقوادة وقد يستغل سلطانه جنسيا على الطالبات.
ولست أشك في أن الكثير سيعجب من صراحتي:
ذلك أن من عاش في مناخ الجامعات العربية يعلم أنه مثله مثل الثقافة والإعلام يمثل وسطا أفسد الف مرة من وسط النخب الحاكمة التي تستعملهم.
فهم في نسبة هذه النخب استفادة منهم حماة في الداخل مثل الحكام استفادة من حماتهم في الخارج. والأكثر وقاحة من الجامعيين هم من يجمعون بين الحمايتين فحماتهم في الداخل يهابونهم ويتركون لهم الحبل على الغارب يفعلون بالتعليم وبالمتعلمين ما يفرضه حاميهما معا: الجامعة التونسية مجرد أناكس “ملحق” لأسقط جامعات فرنسا وخاصة أقسام الآداب والعلوم الإنسانية.
وليس بالصدفة أن تكون هذه الأقسام اكثر الأقسام جرأة على الإسلاموفوبيا. فقد تجد في الغرب علماء يبحثون في فلسفة الدين مطبقة على كل الأديان فلا يختصون في دجل النقد الديني المقصور على الإسلام.
فهذه من خصوصيات الجامعات العربية عامة والمتفرنجة خاصة من المغارب وحتى المشارق ممن اسميهم خريجي المدرسة اليعقوبية التي أثرت في المشرق حتى الذي استعمرته إنجلترا بسبب كذبة النهضة التي بدأت مع غزوة نابليون لمصر.
ذانك هما المحركان اللذان غابا في التعليل الخلدوني وإن كان أشار في الفصل الأربعين بالأمثلة إلى شعوب تتصف بهذين الصفتين فحولوهما إلى سلطان خفي هو سلطان الخداع والتحيل.
ورغم أني عانيت من الاثنين وعشت في الجامعتين التونسية والفرنسية عيشا حيا وعشت في الكثير من الجامعات من خلال أعمال علمائها بجل لغات الغرب الحديث فإني أحاول أن أكون موضوعيا لئلا يكون كلامي رد فعل شخصي عن وضعية كل طلبة الجامعة التونسية يعلمون الكثير منها: لم أر في أي مكان اكاديميين مثل ما عندنا نحن العرب “تبارك الله” على مستواهم العلمي والخلقي.