سيدي، توة ولّى بيني وبينك ماء وملح
الطيب الجوادي
كان ذلك منذ أكثر من سبع عشرة سنة!
سمعت نقرات خفيفة على باب القسم، فطلبت من احد تلاميذ التاسعة فتح الباب فإذا إحدى القيمات تعلمني أن المدير يريدني في أمر ما، وأنها ستراقب التلاميذ حتى عودتي.
في مكتب المدير وجدتني أمام تلميذ يقف قريبا من مكتب المدير، وسيدة خمسينية، وكهل في نفس العمر، القيت التحية فصافحني المدير وطلب مني الجلوس، وبدون مقدمات توجه إلي بالحديث:
-سي الجوادي باختصار، نعرفك تخدم توة، أنا باش ندلل عليك، نحب التلميذ هذا انقلوا يقرا عندك، ما لقينا معاه حتى حل، عامل في الأساتذة وموش منضبط، وأمو وبوه اعترفولي انهم ماعادوش مسيطرين عليه، وانا نحب نعطيه فرصة أخيرة..
استدرت نحو التلميذ، كان ضخم الجثة فارع الطول، يضع على راسه قبعة تغطي شعرا طويلا، وعيناه تقدحان الشرر، وملامحه رصاصية متجهمة زادها أنفه الأفطس وحشة ونفورا.
وقفت وطلبت من التلميذ أن يرافقني للقاعة، قطعنا الساحة دون أن نتبادل أي كلمة، وعندما مررنا بجانب المشرب سألته:
– جيعان تاخو كسكروت ؟
– ما عنديش فلوس، أجابني ببرود
طلبت من صاحب المشرب أن يعد له لمجة ومعها قارورة كولا، وطلبت منه أن يتناول لمجته في المدرج ثم يلتحق بالقاعة.
بعد ربع ساعة سمعت نقرات على الباب، إنه هو!
سألته: وين تحب تقعد ؟
مسح القسم بعينيه الثاقبتين، ثم أجابني:
– في آخر طاولة وحدي، وكان له ذلك
لازم الصمت طيلة الساعة الأولى وبمجرد أن رن الجرس جاءني إلى المكتب وهمس لي:
– سيدي تقريهم ساعتين؟
– نعم أجبته.
– يلزمني نخرج نتكيف، توة فيسع نرجع.
– عندك دخان سألته، ولما لازم الصمت، وضعت دينارين في جيبه وتركته يخرج إلى الساحة.
في الحصص الموالية، لاحظت انه يلتزم الصمت التام، لا يفتح كتابه، ولا كراسه، لا يتبادل الكلام مع أي من أقرانه، لا يضحك لنكتي ولا يثيره أو يلفت انتباهه أي شيء، اكتفيت بمراقبته من بعيد دون أن أطالبه بأن يفتح كتابه أو يكتب على كراسه.
اقترب منه أحيانا أسأله بصوت خافت:
– ما قلتش ليا كليبيست والا مكشخ ؟
تلتمع عيناه وتدب في جسده الضخم حياة جديدة.
– انا مكشخ، ونعرفك كليبيست مسيو.
– ماو ربحناكم بخمسه عاد، استطرد ضاحكا، فينتعش ويتحمس ويذكرني أن الترجي “ديما في العلالي”.
أهمس له بتودد:
– تحب تخرج تاكل أو تتكيف، فيخرج أو يرفض بإشارة من رأسه.
في احدى الحصص طلبت منه أن ينتظرني عندما يرن الجرس، سألته ممازحا:
قالولي عامل حالة وهايج، تي هاك ما أحلاك، وهاو ولينا أصحاب، أجابني إجابة مازالت ترن في أذني لليوم :
– سيدي، توة ولّى بيني وبينك ماء وملح!
وهو اليوم ضابط كبير في الأمن !