الأربعاء 12 مارس 2025
أحمد الرحموني
أحمد الرحموني

هل تخلت المحكمة الإدارية عن ضمان حرية التنقل؟!

القاضي أحمد الرحموني

في قرارات مفاجئة (حتى للقضاة أنفسهم) أصدرها الرئيس الأول للمحكمة الإدارية السيد عبد السلام قريصيعة يوم 30 سبتمبر 2021 في مادة توقيف التنفيذ، رفضت المحكمة الإدارية جملة المطالب المقدمة طعنا في القرارات الصادرة بعد 25 جويلية 2021 عن المكلف بتسيير وزارة الداخلية والمتعلقة بوضع العارضين تحت الإقامة الجبرية.

وقد خلص الرئيس الأول -في تعليله لقرارات الرفض- إلى انه لم يتبين أن التمادي في تنفيذ القرارات المنتقدة (قرارات الإقامة الجبرية) من شأنه أن يتسبب للعارضين في نتائج يصعب تداركها على معنى الفصل 39 من قانون المحكمة الإدارية أي تلك النتائج التي متى تحققت يكون من العسير الرجوع بها إلى الوراء أو إصلاح ما يمكن أن يترتب عنها من تداعيات.

وقد اعتمد الرئيس الأول في هذا الخصوص على مستندين أساسيين:

الأول: وهو ما يطابق وجهة نظر وزارة الداخلية، أن قرار الوضع تحت الإقامة الجبرية هو من قبيل التدابير الوقتية الوقائية التي تنتهي بانتهاء حالة الطوارئ، ويمكن رفع هذا الإجراء حال انتفاء موجبه ولو مع تواصل حالة الطوارئ، وبأن الإدارة حريصة على ضمان معيشة المعني بالأمر بالسماح له بالتنقل بكامل مرجع النظر الترابي لمركز الأمن الوطني التابع له من حيث الإقامة، وانه يمكن وبطلب منه السماح له بالتنقل خارجه لقضاء حاجياته الأساسية استنادا إلى أحكام الفصل 5 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطّوارئ.

الثاني: إن المحكمة (الإدارية) دأبت بخصوص المطالب الرامية إلى توقيف تنفيذ القرارات المتعلقة بالوضع تحت الإقامة الجبرية على الأذن بتوقيف تنفيذ هذه القرارات جزئيا كلما تضمنت منع الأشخاص المعنيين بها من مغادرة محل إقامتهم باعتبار أن ذلك يعد انتهاكا جسيما للحقوق والحريات التي يكفلها لهم الدستور وخاصة حريتهم في التنقل وممارسة حقوقهم الأساسية.

وعلى خلاف ذلك اتضح للمحكمة بالاطلاع على القرارات المراد إيقاف تنفيذها انه لا شيء يحول دون تنقل العارضين داخل المنطقة الترابية مرجع النظر، كما لم يثبت للمحكمة انه تم منعهم من التنقل خارجها أو رفض الترخيص لهم في مغادرتها لقضاء حاجياتهم الأساسية.

وفي ضوء هذه المبررات، نلاحظ أن القرارات الأخيرة تثير صنفين على الأقل من التحفظات :

أولا: التحفظات المستمدة من المستندات الواردة بالقرارات :

يتضح أن قرارات المحكمة لم تلتفت إلى الأسباب الجدية التي تمسك بها العارضون والى النتائج التي يصعب تداركها من جراء تقييد حريتهم في التنقل كالمساس بسمعتهم أو التأثير على عملهم أو شؤونهم العائلية بقطع النظر عن دائرة (أو امتداد) تحركهم باعتبار أن الإقامة الجبرية -مهما كان مداها- تمثل اعتداء على حرية الشخص وممارسته لحقوقه الأساسية.
كما تغاضت القرارات عن أن المنع بجميع أشكاله لا يستند إلى مبررات مقنعة وان وزارة الداخلية بقطع النظر عن شرعية المستندات القانونية لم تبسط للمحكمة الأسباب الجدية (والحقيقية) التي دعتها إلى وضع العارضين قيد الإقامة الجبرية، ولم تبين الأنشطة الخطيرة التي يمارسها العارضون تهديدا للأمن والنظام العامين!.
كما أنه لم يثبت أن الإدارة كانت حريصة على ضمان معيشة المعنيين بالأمر أو السماح لهم بقضاء حاجياتهم الأساسية.

ثانيا: التحفظات المستمدة من فقه قضاء المحكمة الإدارية :

يتضح أن القرارات الجديدة تخالف فقه قضاء المحكمة سواء في دوائرها الأصلية أو في قراراتها الفردية المتعلقة بتوقيف التنفيذ، فضلا عن أن الرئيس الأول للمحكمة الإدارية نفسه قد سبق له (بشهادة بعض زملائه) إصدار قرارات مخالفة في وقائع مماثلة.
ومن الثابت أن فقه القضاء المستقر للمحكمة الإدارية قد داب على إلغاء تلك القرارات وتوقيف تنفيذها منذ سنة 2018 على الأقل دون تراجع.
ولا شك أن الأسانيد القانونية التي أخذت بها المحكمة الإدارية بشأن التدابير الاحترازية (سواء في الأوضاع العادية أو الاستثنائية) من شأنها “أن تغلب لدى قاضي توقيف التنفيذ احتمال القضاء بالإلغاء في الدعوى الأصلية بالنظر لما تكتسيه من قوة الإقناع الظاهر”.

وفي هذا الخصوص برز في فقه قضاء المحكمة التأكيد على مبدئين اثنين :

أولهما: أن التدابير الاحترازية التي من شأنها التضييق من الحقوق والحريات ينبغي أن تستند في اللجوء إليها إلى نص له مرتبة التشريع ولا يكون بنص ترتيبي.
وتبعا لذلك اعتبرت المحكمة أن “الانتفاع بالحق في ممارسة الحريات العامة يجد أساسه في النصوص الدستورية والمعاهدات المصادق عليها وفي المبادئ العمومية للقانون.
ولا يمكن أن توضع ضوابط لممارسة تلك الحقوق والحريات إلا بمقتضى قوانين تتخذ لاحترام الغير ولصالح الأمن العام على أن لا تنال تلك الضوابط من جوهر الحقوق والحريات” (حكم صادر تحت عدد 126863 بتاريخ 18 مارس 2014).

ثانيهما: الاستناد في إزاحة تطبيق أحكام الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ إلى تعارضه مع مقتضيات الفصل 49 من الدستور الجديد الذي ينص على أن القانون هو الذي “يحدد الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهر ها..”
ومن ضمن تلك الحقوق والحريات حرية اختيار مقر الإقامة وحرية التنقل داخل الوطن ومغادرته المقررة بالفصل 24 من الدستور.
وفي ضوء ذلك من الواضح أن يكون الأمر المذكور غير دستوري ولا يصح الاستناد إليه في اتخاذ التدابير الاحترازية ومن ضمنها الإخضاع للإقامة الجبرية في ظل حالة الطوارئ.
(انظر: الحكم الإبتدائي الصّادر عن الدّائرة الابتدائيّة الأولى بتاريخ 2 جويلية 2018 في القضيّة عدد 15016 المنشور بصفحة المحكمة الإدارية التونسية بتاريخ 9 نوفمبر 2018).

فهل نشهد بصدور القرارات الأخيرة “انتكاسة ” في ضمان القضاء الإداري لحقوق الناس وحرياتهم وتراجعا غير مبرر عن ضمان حق التنقل دون قيود المكفول بالدستور والمعاهدات الدولية؟!
أم أن سلطة القضاء قد بدأت تتأثر بالأوضاع الاستثنائية وامتيازات الإدارة ؟!


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

أحمد الرحموني

من ينصف القضاة !؟

القاضي أحمد الرحموني ماذا يمكن أن نقول ونحن نعيش اليوم أقسى فترات المحنة في تاريخ القضاء …

أحمد الرحموني

تحريف البيان الأصلي لمجلس الوزراء!

القاضي أحمد الرحموني بعد ثماني ساعات من نشر بيان مجلس الوزراء المنعقد في 28 أكتوبر 2021 بالصفحة …

اترك تعليق