المحكمة الإدارية في مواجهة الإقامة الجبرية
القاضي أحمد الرحموني
أفاد الناطق الرسمي باسم المحكمة الإدارية في 16 أوت الجاري أن هذه المحكمة “قد تلقت طعنين فقط في مطالب إيقاف التنفيذ بالنسبة للإقامة الجبرية تقدم بهما كل من البشير العكرمي ورياض الموخر” (تصريح لإذاعة إكسبريس اف.ام في نفس التاريخ).
وطبق ما هو متوفر إلى حد الآن من معطيات معلنة، فإن الإقامة الجبرية قد شملت ما لا يقل عن عشر شخصيات من بينهم وزيران سابقان وقاضيان ونائبان وثلاثة مستشارين سابقين برئاسة الحكومة إضافة إلى مدير عام سابق للمصالح المختصة بوزارة الداخلية.
وقد تم إخضاع هؤلاء للإقامة الجبرية بموجب قرارات صدرت عن المكلف بتسيير وزارة الداخلية رضا غرسلاوي، المعين بتاريخ 29 جويلية الفارط من قبل رئيس الجمهورية بعد توليه منذ 25 جويلية تعليق أعمال البرلمان وإقالة رئيس الحكومة وتركيز سلطات الدولة بين يديه!.
ويستند القرار الصادر بالإقامة الجبرية أساسا إلى أحكام الفصل 5 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ الذي يمكن وزير الداخلية من أن يضع تحت الإقامة الجبرية في منطقة ترابية أو بلدة معينة أي شخص يقيم بإحدى المناطق يعتبر نشاطه خطيرا على الأمن والنظام العامين بالمناطق الترابية المحددة بأمر.
وبقطع النظر عن الجدل الدائر حول شرعية القرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية تأويلا للفصل 80 من الدستور وما ترتب عن ذلك من تعيينات (ومن بينها تسمية المكلف بتسيير وزارة الداخلية)، فإن وجود طعنين لدى المحكمة الإدارية في إجراءات الإقامة الجبرية يدعو إلى البحث بالأساس حول شروط قبول مطالب الطعن في مثل هذه القرارات وسوابق النظر من قبل المحكمة الإدارية في مثل هذه القضايا (من خلال ما توفر من فقه قضائها).
أولا. من جهة شروط قبول مطالب الطعن، استقر توجه المحكمة الإدارية في مادة توقيف التنفيذ على تلازم شرطين اثنين :
• الشرط الأول يتعلق بضرورة أن يتضمن مطلب الطعن مستندات جدية من قبل الطاعن أي أن يقدم مستندات تثبت أن القرار مخالف للقانون والشرعية.
• الشرط الثاني يتمثل في إثبات وجود نتائج يصعب تداركها أي على الطاعن إثبات وجود ضرر سيحصل جراء تنفيذ هذا القرار.
ويختص بالنظر في قرارات توقيف التنفيذ الرئيس الأول للمحكمة الإدارية طبق الفصلين 39 و40 من قانون المحكمة الإدارية.
ويبت الرئيس الأول في مطلب الطعن في اجل شهر لكن عمليا يمكن أن يصدر القرار قبل إنتهاء هذه المدة أو بعدها بقليل.
وتحال عريضة الطعن على وزارة الداخلية مع مطالبتها ببيان الأسباب التي أدت إلى اتخاذ القرار المطعون فيه والأدلاء بالمؤيدات المتعلقة بذلك. (راجع في نفس الاتجاه تصريح الناطق باسم المحكمة الإدارية لإذاعة شمس. اف. ام بتاريخ 16 أوت 2021).
كما يشار إلى أن المحكمة الإدارية لا تشترط إرفاق الشكاية المتعلقة بهذا النوع من القضايا بنسخة مكتوبة من القرار الإداري (قرار الإخضاع للإقامة الجبرية). ويستند ذلك إلى فقه قضاء المحكمة الإدارية الذي لا يشترط أن يكون للقرار الإداري شكل مكتوب حتى يقبل الطعن أمام المحكمة بل يمكن أن يستنتج من آثاره المادية.
كما لا يتم تحميل المتقاضي عبء تكليف محام في القضايا المتعلقة بشرعية القرارات الإدارية، كما أنه بالإمكان الانتفاع بالإعانة القضائية. (انظر في نفس الاتجاه مقال القاضي الإداري عماد غابري: رقابة القاضي الإداري على التدابير الاحترازية الأمنيّة في تونس – صفحة المحكمة الإدارية التونسية).
ثانيا. أما من جهة فقه قضاء المحكمة الإدارية، فقد أسست توجهها إلى إلغاء قرارات الإقامة الجبرية على جملة من المبادئ التي تأكدت خصوصا في ظل الدستور الجديد لسنة 2014، من ذلك:
1. تأكيد المحكمة بصفة مبدئية على أن التدابير الاحترازية التي من شأنها التضييق من الحقوق والحريات ينبغي أن تستند في اللجوء إليها إلى نص له مرتبة التشريع ولا يكون بنص ترتيبي.
وتبعا لذلك اعتبرت المحكمة أن “الانتفاع بالحق في ممارسة الحريات العامة يجد أساسه في النصوص الدستورية والمعاهدات المصادق عليها وفي المبادئ العمومية للقانون.
ولا يمكن أن توضع ضوابط لممارسة تلك الحقوق والحريات إلا بمقتضى قوانين تتخذ لاحترام الغير ولصالح الأمن العام على أن لا تنال تلك الضوابط من جوهر الحقوق والحريات” (حكم صادر تحت عدد 126863 بتاريخ 18 مارس 2014).
2. الاستناد في إزاحة تطبيق أحكام الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ إلى تعارضه مع مقتضيات الفصل 49 من الدستور الجديد الذي ينص على أن القانون هو الذي “يحدد الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها..”
ومن ضمن تلك الحقوق والحريات حرية اختيار مقر الإقامة وحرية التنقل داخل الوطن ومغادرته المقررة بالفصل 24 من الدستور.
وفي ضوء ذلك من الواضح أن يكون الأمر المذكور غير دستوري ولا يصح الاستناد إليه في اتخاذ التدابير الاحترازية (ومن ضمنها الإخضاع للإقامة الجبرية) في ظل حالة الطوارئ.
ومن أبرز القرارات في هذا الشأن
الحكم الإبتدائي الصّادر عن الدّائرة الابتدائيّة الأولى بتاريخ 2 جويلية 2018 في القضيّة عدد 150168 والقاضي بإلغاء قرار وزير الدّاخليّة المتعلّق بإخضاع شخص لإجراء الإقامة الجبريّة لإنعدام سنده القانوني والواقعي.
علما أنّ وزارة الدّاخليّة استندت في دفوعاتها إلى مقتضيات الفصل 5 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرّخ في 26 جانفي 1978 المتعلّق بتنظيم حالة الطّوارئ وأحكام الفصل 4 من الأمر عدد 342 لسنة 1975 المتعلّق بضبط مشمولات وزارة الدّاخليّة.
فمن جانب السّند القانوني انتهت المحكمة إلى أنّ إستناد جهة الإدارة على نصوص ترتيبيّة لتأسيس صلاحيّاتها في ضبط حريّة التنقّل وإختيار المقرّ والحدّ منها دون وجود نصوص تشريعيّة تحدّد تلك الضّوابط وشروط إعمالها، يغدو مخالفا للدّستور في فصليه 24 و49، الأمر الذي يجعل القرار المنتقد صادرا دون سند قانوني.
أما من جانب السّند الواقعي فقد أكّدت المحكمة على أنّ تسبيب القرار المطعون فيه بهدف حفظ الأمن والنّظام العامّين بالبلاد المكلّفة بها الإدارة بمقتضى القانون والتّراتيب دون بيان الأسباب بصورة كافية ودقيقة ودون مدّ المحكمة بمكوّناتها، لا يقوم عنصرا كافيا للتحقّق من صحّة مستندات الإدارة ومدى مطابقتها للقانون، الأمر الذي من شأنه أن يحول دون سحب القاضي الإداري رقابته على صحّتها ودون إمكان إقامة الموازنة بين موجبات الحقوق والحريّات الدستوريّة من جهة ومقتضيات ضمان النّظام العام من جهة أخرى.
وعليه انتهت المحكمة إلى أنّه طالما بقيت أوراق الملفّ خالية ممّا يبيّن ضرورة اللّجوء إلى وضع المعني بالأمر تحت الإقامة الجبريّة، فإنّ القرار المنتقد يغدو فاقدا لكلّ أساس واقعي. (راجع نص الحكم المنشور بصفحة المحكمة الإدارية التونسية بتاريخ 9 نوفمبر 2018).