تدوينات تونسية

سبق السيفُ العذل…

بشير العبيدي‎ 

#كنوز اللسان العربي
مثل عربي جاهلي شاع كثيراً، ينسب لضبة بن إد المضري. ينقل الرواة أن ضبة كان يسير في يوم من أيام شهر محرّم، وهو شهر كانت العرب تحرّم فيه القتال، كان يسير ومعه الحارث بن كعب، فأتى إلى مكان فقال له الحارث: أتعرف هذا الموضع؟ فإني لقيت فيه فتى هيئته كذا وكذا فقتلته، وأخذت منه السيف . وثبت لضبة أن القتيل هو ابنه سعد، وأن السيف سيفه. فقال له: أرني السيف أنظر إليه. فتناوله فعرفه، فقال له: إن الحديث ذو شجون. ثم ضربه فقتله.

ولأن العرب كانت تحترم تقاليد وقف القتال في الأشهر الحرم، لامه الناس على ذلك أشد اللوم، وقالوا له: أقتلت نفسا في الشهر الحرام؟ فقال لهم: سبق السيف العذل. والعذل هو اللوم، كأنه أراد: لا فائدة في لوم بعد القضاء. وفي لهجاتنا في بلاد المغرب الكبير نقول: اللوم بعد القضاء بدعة… وهي في نفس المعنى تقريبا.

وليت عرب اليوم يستأنفون العمل بما كان يعمل به الأسلاف، فيتوقفون عن التقاتل والتآمر على بعضهم البعض في الأشهر الحرم، وحتى في الأشهر “الحلال”، ولا يحل القتل بلا وجه حق على أية حال.

ولعل بعض الناس يتساءلون عن سبب وجود تسميات من نوع “ضبّة” في عصر الجاهلية، وذلك أن العرب قديما كانوا يسمون بعض أولادهم أسماء حيوانات من محيطهم، وفي ذلك دلالة عميقة، وهي أن الثقافة العربية القديمة كانت امتدادا للطبيعة وتماهيا معها، فيسمون باسم النبات “حنظلة”، وباسم الحيوان “ضبّة” و”ثعلبة” و”قسورة” وما شابه ذلك، كما يتخذون هذه الأسماء لأسباب نفسية مثل تخويف الأعداء المتربصين بفرسان تحمل أسماء خشنة مخيفة، أو يختارون اسما معكوسا لدفع شرّ العين الحاسدة أو للتمني والتيمن مثل خديجة، وتعني: تلك التي تخدج أي تلد مبكرا. على أنهم يسمون الخدم والعبيد والأبناء الذين يخدمونهم في البيوت بأسماء لطيفة وشاعرية.

وهكذا، فالأسماء كالأمثال، قصص حية تنتقل من جيل إلى جيل، والحفاظ على اللغة هو من وجه حفاظ على الجذور العميقة التي تروي أيام الأجداد وتجارب العباد، فلا شجرة تعيش بلا جذر، لأن الحياة لا تتيسر إلا بماء مشبع بالمعادن، يتشرّبه العرق من العمق…

#بشير_العبيدي | جمادى الآخرة 1442 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock