عبد اللطيف علوي
لأنّه صار لدينا اليوم جيل كامل عاش الحرّيّة ولم يعش الاستبداد. منهم من هم في عمر العشرين اليوم، كانوا في عمر العاشرة يوم قيام الثّورة، بمعنى أنّ فترة بن علي لا وجود لها ولا تأثير لها على عقولهم إلاّ كأطفال. هؤلاء هم أبناء الثّورة وهم زرع الحرّية، وهم أبناء الفايسبوك واليوتيوب والطّفرة المعلوماتيّة، جيل ثائر بالفطرة وبالتّكوين، ولن يستطيع أيّ نظام مستقبلا أن يعيده إلى حظيرة الدّجاج ولو استعمل الكيمياويّ!
لأنّها راهنت على الزّمن وربحت الرّهان، استطاعت أن تبتعد رويدا رويدا عن عين العاصفة الّتي ضربت غيرها من الثّورات العربيّة، وهي اليوم تتّخذ مدارها بعيدا عن الخيارات الدّمويّة الّتي كانت في أوجها لحظة الانحدار السّريع للربيع العربيّ سنوات 2012 و 2013 و 2014…
لن تسقط الثّورة التّونسيّة لأنّها لم تنشد التّغيير السّريع الّذي يحدث تغيّرات زلزالية في المجتمع لا يمكن التّحكّم في نتائجها، الثّورة التّونسيّة هي ثورة بطيئة، ولم يحمها في المنعرجات الخطيرة سوى بطئها، استطاعت أن تتحسّس العوائق في الطّريق وتتحاشى المزالق والألغام وتغيّر من تكتيكاتها وأولويّاتها وحساباتها، فاكتسبت بذلك خبرة السّير في المسالك الوعرة وتعلّمت بالتّدريج كيف تسير على حافّة الهاوية دون أن تسقط فيها.
لن تسقط الثّورة التّونسيّة لأنّها لم تذهب في طريق القطع التّامّ مع المنظومة القديمة، المنظومة القديمة هي طبقة اجتماعيّة كاملة من المستفيدين من النظام السّابق، وكلّ ثورة تذهب مباشرة إلى استئصالها وإقصائها بشكل تامّ ستسقط في الحرب الأهليّة والفوضى. الثورات لا تنجح ولا تتحوّل إلى ديموقراطيّات إلاّ بعد تحقيق تسويات تاريخيّة معيّنة يقع بموجبها إعادة اقتسام السلطة والثروة وفق قواعد لعبة جديدة تستوعب القديم ولا تلغيه أو تنفيه، وهو ما نجحت فيه الثّورة التونسية إلى اليوم، حيث صار الكثير من دواليب مستفيدا من الثورة ومعنيّا بنجاحها.
لن تسقط الثّورة التّونسيّة لأنّها نجحت في تكسير الأوهام. عودة المنظومة القديمة للحكم من خلال النّداء كانت ضرورية جدّا ومفيدة جدّا لكسر الأوهام الّتي زرعها الإعلام عن رجالات دولة بن علي وفشل معارضيه في إدارة البلد، كان هناك طوفان من الأكاذيب والدّعاية المضادّة للثّورة جعلت النّاس يلعنونها ويحنّون إلى القديم، ولكن بعد أن جرّبوا فساده وفشله وانحطاطه، وبعد أن ازداد فقرهم وجوعهم، صاروا اليوم أبعد ما يكونون عنه، وما علينا سوى صياغة البديل المقنع المبدع لوسائله القادر على الوصول إلى النّاس وكسب ثقتهم من جديد.
لن تسقط الثّورة لأنّ النّظام السّياسيّ الّذي أرساه الدّستور الجديد يقوم على توزيع السّلطة بشكل يمنع عودة الاستبداد مجدّدا. لم يعد بإمكان أيّ كان أن يمسك بيديه كلّ الخيوط، داخل السلطة التنفيذية تتوزّع السّلطة بين رئاسة ورئاسة حكومة وسلطة أقاليم وجهات منتخبة. الهيئات الدستورية أيضا وزّعت السّلط وجعلتها مستقلّة وسيّدة في مجالها. كلّ هذه الاعتبارات تجعل من المستحيل عمليّا أن تسقط الثّورة ويعود الاستبداد إلاّ بانقلاب عسكريّ.
هل يمكن أن يحدث انقلاب عسكريّ في هذا البلد؟ نظريّا كلّ شيء ممكن، مثلما هو ممكن في أيّ بلد في العالم يعيش ديموقراطية ناشئة وهشّة، لكنّه في تونس بعيد الاحتمال، لأسباب أخرى يطول شرحها. إذن! ماهو المطلوب؟
المطلوب أن نؤمن أكثر بأنفسنا وبربّنا وبشعبنا، وبأنّنا لسنا قشّا تحمله السّيول حيث شاءت، وبأنّ مسار الثّورات طويل وقاس ومليء بالأشواك والأوجاع والتّضحيات والنّكسات والانتصارات. ربّما خطاب اليأس يجد لدينا هوى كبيرا خاصّة نحن شعوب العرب، ولست هنا أدعو إلى خطاب التّفاؤل، فكلاهما خادع مضلّل، إنّما أنا أدعو إلى خطاب تعبئة الطّاقات الإيجابية اللاّزمة لكلّ أمر في الحياة.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.