صالح التيزاوي
مرّ أكثر من نصف قرن على هزيمة حزيران (جوان) 1967، وكلّما حلّت ذكراها، فتحت جروحا عميقة وأثارت أحزانا بسبب الهزيمة أوّلا، وبسبب الإستبداد ثانيا، وبسبب تداعياتها على الأمّة العربية ثالثا. دون أن ينتهي الجدل: هل كانت حركة الضّبّاط الأحرار في مصر ثورة؟ أم انقلابا عسكريّا؟ وبمنتهى السّخف، يصرّ حملة الفكر القومي (كهنة المعبد) على إرجاع الهزيمة إلى المؤامرات الخارجيّة والخيانات الدّاخليّة، وزاد بعضهم إلى السّخف بؤسا ثقافيّا، عندما أرجعوا الهزيمة إلى القضاء والقدر الذي لم يمهل عبد النّاصر لتحقيق “آمال” الأمّة في الوحدة وتحرير الأراضي المغتصبة، حتّى آخر شبر، دون أن تكون لهم جرأة الإعتراف بأنّ الحكم الفردي الذي أسّس له عبد النّاصر كان السّبب الرّئيسي لهزيمة قاسية.. وبينما اعتبروا انقلاب عشرات الضّبّاط “ثورة”، فإنّهم تآمروا على الثّورات الحقيقيّة للشّعوب العربيّة على الإستبداد ووصموها بأنّها ثورات “عبريّة”.
شكّلت “ثورة يوليو” للضّبّاط الإحرار بقيادة جمال عبد النّاصر بارقة أمل لتصفية إرث الإستبداد، لكونه ارتبط باستعباد البشر وإلغاء إنسانيّتهم وتحويلهم إلى قطعان.. والتْأسيس لتجربة ديمقراطيّة، تكون مصر منطلقها ويكون لها فضل الرّيادة في العالم العربي والقارّة الإفريقيّة.. ولكنّ “الرّيّس”، كان له رأي آخر!! تحوّلت على يديه “الحركة المباركة” أو “الحركة التّصحيحيّة” أو “ثورة يوليو” (تتغيّر التّسمية بحسب مراحل التّمكين للفكر الإنقلابي) إلى ملك عضوض”، افتتحه عبد النّاصر بحلّ الأحزاب السّياسيّة وتعطيل العمل بالدّستور وتأميم الإعلام وتحويل العروبة التي هي وعاء للقيم الحضاريّة للإسلام إلى أيديولوجيا، اتّخدت من الإنقلابات العسكريّة منهجا للتّغيير… تجربة تردّد رجع صداها في سوريا والعراق وليبيا..
من الثّورة إلى الإستبداد
عندما أسرّ الجناح الإصلاحي في “ثورة يوليو” إلى جمال عبد النّاصر بضرورة الإلتفات إلى الحرّيّة باعتبارها جوهر الحداثة وباعتبارها قيمة إنسانيّة، لا تقبل “عوضا ولا تتساوى بشيء” وبضرورة إدخال إصلاحات على نظام الحكم حتّى يكون منسجما مع روح العصر، جاء الرّد عن طريق الإعلام المضلّل و”الإتّحاد الإشتراكي” (حزب الرئيس)، بأنٓها أمور تشغل عن الإستعداد للمعركة الموعودة.. مع العدوّ الغاصب لفلسطين. ردّ يصدق عليه المثل القائل “قطعت جهيزة قول كلّ خطيب”. حيث أقدم عبد النّاصر على حملة مداهمات واعتقالات واسعة، قام بها البوليس السّياسي والمخابرات الحربيّة، في صفوف الإسلاميين والشّيوعيين واللّيبرليين، شملت نخبا من السّياسيين والأدباء والعلماء والفناّنين، لقد أصبح رفاق الأمس وأنصار الثّورة أعداءها، وبات التّخلّص من صداعهم من شروط “الإستعداد للَعركة” مع العدوّ الصّهيوني، حتّى غصّت أقبية السّجون بالمعارضين والنّاصحين على حدّ سواء.. بعد أن ضاقت صدور العسكر بآرائهم. وغدوا في عهد “الثّورة المجيدة” طعمة لكلاب شمس بدران تنهش أجسادهم في المعتقلات والمحتشدات، وأضحى مشهد الخيول، وهي تجرّهم على رمال الصحراء الملتهبة منظرا مسلّيا للجلّادين.. ومن قضى نحبه من شدّة التعذيب، تقيّد الجريمة “حادثة هروب”… وفّرت تلك المرحلة المظلمة من تاريخ مصر مادّة خصبة للسّينما المصريّة، فأنتجت أعمالا فنّيّة رائعة، شاهدة على توحّش البشر عندما تتملّكه الأيديولوجيا، فلم “أحنا بتوع الأتوبيس” وفلم “البريء”. فهل فكر بهذه البشاعة ونظام بتلك القسوة يمكن أن يقودا إلى نصر أو حتّى ربع نصر؟
من الإستبداد إلى الهزيمة
غاب عن عبد النّاصر، وهو يدير ظهره لمطالب الإصلاح ويبطش بمعارضيه، أنّه لم يكن يؤسّس لنظام شمولي ويرسّخ قدم الإستبداد في الوطن العربي وحسب، بل كان يستكمل شروط الهزيمة، فلم تغن عنه حملة التّضليل الإعلامي، من قبيل “لا صوت يعلو على صوت المعركة” جنّد لها إعلاميّبن سفهاء، تابعين بالولاء إلى الأبد، قوّادين كما لم يقوّد أحد، تنازلوا عن شرفهم وعن شرف مهنتهم لحاكم مستبد، وبرزت شعارات متخلّفة من نوع “الزّعيم أو لا أحد” وعلى رأي زغراطة تونس “بن علي ماكيفو حد”.. لقد غاب عن النّظم القوميّة الإنقلابيّة أنّ الإعلام لا يخلق انتصارات، خاصّة إذا كان يحترف التّضليل… كما لم تغن عنه صداقة الرّوس شيئا من هزيمة استكمل شروطها بنفسه.
في لمح البصر، صبيحة الخامس من خزيران (جوان) شنّ الطّيران الحربي الصّهيوني ضربات جويّة على المطارات المصريّة، فحطّم بالكامل طائرات، قيل: إنّها كانت تنتظر إذنا بالإقلاع.. ولكنّها لم تغادر مدارج قيل أيضا: إنّها كانت مغشوشة. وابتلع الصّهاينة المزيد من الأرضي العربيّة، على أنغام صوت فيروز المنبعث من إذاعة صوت العرب من القاهرة “نحن راجعون”… فلا نحن رجعنا ولا هم يحزنون وإنّما صدق نزار قباني “إنّا للّه وإنّا إليه راجعون”!!
من الهزيمة إلى سطحيّة المراجعات
رغم فشل القوميين العرب الذّريع في تحقيق أيّ من الأهداف التي ألغوا من أجلها الدّيمقراطيّة، فإنّ بقاياهم مازالوا إلى اليوم لا يعترفون بأخطاء “أربابهم” وأنّهم زيادة على هزائمهم العسكريّة، أضرّوا بالأمّة عندما فصلوا بين العروبة والإسلام، ورسّخوا قدم الإستبداد في الوطن العربي.. حتّى بات حكم العسكر في مصر “خصوصيّة مصريّة”، تحت عنوانها، صفّقوا لانقلاب السّيسي، والتقطوا كذبة الممانعة ليدعموا سفّاح الشّام… ولا ندري ماذا وجدوا في حفتر حتى يحظى بمباركتهم؟ لا شكّ أن بدلته العسكريّة ونياشين “الماريشالات”، أحيت في نفوسهم الحنين لزمن الإنقلابات.. ربّما شمّوا عليه رائحة الخلف والعوض لما سلف !!
لقد أبدى الخلف العروبي كسلا فكريّا منقطع النظير، مكتفين بتسمية النّكبة “نكسة”، ومتْكئين على المؤامرات الخارجيّة والخيانات الدّاخليّة لتبرير الهزيمة!! عبث فكري لا يرتقي إلى مستوى المراجعات الجدّيّة، لتكون في حجم الهزيمة وما تلاها من إحباط اكتسح الشّارع العربي ومثقّفيه ولتتناسب مع طول تجربة حكم القوميين العرب في بلاد عربيّة كثيرة.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.