طارق العبيدي
“وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
الآية 63 من سورة الأنفال من الكتاب الحكيم
“إن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله أتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد وأتسع نطاق الكلمة لذلك”.
العلامة عبد الرّحمان بن خلدون ـ المقدّمة.
إذا كانت هناك من محصلة آراء إيجابية لهذا التباعد الاجتماعي الشامل للقارات الخمسة بمحيطاتها وبحارها، والذي فرضه علينا جميعا -أخيارا وأشرارا ظالمين ومظلومين- وباء كورونا المستجد فهي أنّ الرّجال والنّساء متفقون على السّواء في نفس الشعور بأنّ هذه المدنية العصرية وهذا العالم الخارجي عن المنزل أنهكنا أيما إنهاك في المشاغل المادية واللهث بلا توقف وراء متاع الدنيا دونما إشباع. لم تترك لنا هذه الطاحونة الضخمة للرأسمالية المتوحشة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية مساحة فرصة ولو ضئيلة للتأمل في أعماقنا وفي أعماق الطبيعة في الأرض وفي السماء. صرنا -كما صارت الرأسمالية- كالوحوش نأكل حتى من بعضنا إذا لم نجد الطرائد في غيرنا. وعلى عكس التوحش الذي تحركه الشهوات والغرائز فإن الأخلاق والقيم يحركها التــــأمل.
أنهكنا هذا العالم المادي المتوحش الذي يقال عنه “متطوّر”، لأنّه حولنا إلى مجرّد أرقام اقتصادية إحصائية في إنتاج واستهلاك شتى أنواع البضائع والسلع، وأنهكنا سراب الدولة المدنية التي تسمّى افتراضا “دولة العدل الاجتماعي” لأنّها حولتنا الى ركام للظلم الاجتماعي. أنهكتنا أفكار ومفاهيم العلمانية التي تحاول جاهدة وضع ثقب روحي خبيث بين الإنسان وضميره. وأنهكتنا الأفكار والمفاهيم الليبرالية والاشتراكية في العمل والإنتاج من أجل ماذا ؟… من أجل راتبا أو عمولة أو أي مقابلا نقديا آخر كعنوان كبير للعبودية الجديدة على هذه الأرض، فقتلت فينا المواهب الحقّة التي لا يشتريها النقد وحولتنا إلى مجرّد عبيد للمادة برتبة “مواطنين”. الواحد منا في نظر هذه الطاحونة الضخمة، صار يعادل الشاحنة والجرار والقطار والطائرة والباخرة التي تنقل الحبوب والزيوت والفسفاط والغاز والبترول عبر البر والبحر من أجل حفنة من المرابين المضاربين القذرين في بورصة “وول ستريت”.
صرنا آلة كبيرة للعمل ليلا نهارا داخل الطاحونة الضخمة للرأسمالية المتوحّشة. من إفريقيا إلى آسيا إلى أوروبا إلى أستراليا وأميركا نعمل ليلا نهارا من أجــــــــــل من ؟… طبعا ليس من أجل أنفسنا ولا من أجل أبنائنا… نحن نعمل كالعبيد من أجل حفنة قذارة مرابين مضاربين في بورصة “وول ستريت” بنيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، هذا الوحش الكبير الذي أنتجته الثقافة اليهودية المسيحية، منبع الأصول الفقهية للاقتصاد الرّبوي الذي أرتهن كل الثروات الطبيعية والبشرية في كلّ شبر من هذا العالم الفسيح وأصبح في الحقيقة يضارب بالبشرية في البورصات العالمية التي بلغ حجمها عند قدوم وباء كورونا المستجد 69 تريليون دولار. الثقافة الإسلامية براء براءة الذئب من دم سيدنا يوسف عليه السلام من هذا التوحش الاقتصادي الرّبوي المضارب، الذي يدين بكامله إلى الثقافة اليهودية المسيحية التي أحسنت الاختفاء داخل الأفكار العلمانية التي ما فتأت تصدرها لكل العالم لخنق البشرية ومنعها من فرصة التأمل في منابعها الرّوحية والأخلاقية وبقائها رهينة الحياة المادية الصرفة.
في هذه السنة 2020 التي ظهر فيها وباء كورونا المستجد بلغ رقم تعدادنا في الإنتاج والاستهلاك العالمي 7 مليارات ونصف المليار و 278 ألف نسمة في كل القارات الخمسة بمدنها وقراها (بلغة الأرقام الأسية 109 X 8 تقريبا)، وبلغ تعداد تداولنا كعبيد في الأسواق المالية بين هؤلاء الوحوش المرابين المضاربين 69 تريليون دولار (بلغة الأرقام الأسية 1018 X 69). وبلغة المجاز المأساوي، فإنّ ثمن العبد منا (أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا) في عالم هذه السوق المالية الدولية لهؤلاء الوحوش المرابين المضاربين هو 125 مليون دولار (بلغة الأرقام الأسّية 106 X 125). بينما في الحقيقة، فإنّ نصيب العبد الواحد منا العامل فقط أقل من 12 ألف دولار في السنة. هذا باستعمال معايير العلمانية واللبرالية والاشتراكية في المساواة والعدل بين الناس في كل أنحاء العالم، بجناته التي تجري من تحتها الأنهار في الشمال وبجحيمه التي يجري من تحتها البترول والغاز والفسفاط ومناجم المعادن النفيسة في الجنوب. أمّا إذا استعملنا معايير البنك العالمي ومنظمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ العبد في جنات الشمال له نصيب الأسد الذي يقترب من الـ 100 ألف دولار في السنة في بعض هذه الجنات، أمّا العبد في الجنوب فله نصيب القط الذي ينخفض عن ألف دولار وحيد واحدة في السنة في بعض البلدان الإفريقية والآسيوية وفي أميركا اللاتينية، وفي بعض البلدان الإفريقية مثل بوروندي وإفريقيا الوسطى نصيب العبد في حدود 500 دولار سنويا.
هذا العالم المتوحش وهذه الدولة المدنية السراب لم تصادر فقط حقنا في التأمل كضرورة حياتية للمحافظة على تهذيب أخلاقنا وقيمنا، بل صادرت حتى اهتمامنا بأهم أساس مجالات حياة الإنسان وهي الأسرة الخلية الأولى في جسد المجتمع، وصيرتها مجالا مفتوحا على مصراعيه للاستغلال الاقتصادي المفرط، بدأ بالتشغيل الكامل للمرأة وفتح بديلا تجاريا عنها في تربية الأطفال وصولا إلى تجارة أرحام النساء في الحمل والإنجاب بمقابل نقدي. لهذا الغرض القبيح وهذه المدنية الزائفة جمعنا المرابون المضاربون الجشعون كالفئران في مدن ضخمة من الإسمنت المسلح والقصدير، ودمروا أمنا الحنون الطبيعة الخزان الفعلي لإكسير التأمل الذي يساعدنا على النشأة السليمة. كلما عظمت هذه المدنية السراب “الزائفة” التي يحاصرها جشع المرابين المضاربين المتعاظم كلما اتسعت كتلنا المادية وتقلصت الطبيعة ودمرت نظمها البيئية والمناخية.
لن يحل مشكل هذا العالم المتوحش الذي عقدت مسالكه الاقتصادية الثقافة اليهودية المسيحية إلاّ بإيجاد نظام جديد للحياة الإنسانية الاجتماعية يوازن بين الحاجيات المادية والروحية للفرد والأسرة والمجتمع، وهذا لن يتم إلا بإعادة بناء الأسس الأخلاقية والقيمية للمجتمع الإنساني. بإمكاننا إعادة البناء على هذا النحو باستعمال أحدث منتجات التقنية الذكية في الإنتاج والعمل بشكل يعيد للإنسان مساحة التأمل التي يستحقها عقله لكبح توحشه مع استرجاع الطبيعة لنظمها البيئية السليمة من التلوث.
هذه الثقافة اليهودية المسيحية التي بنت الحضارة الغربية الراهنة والتي عقدت مسالكنا الاقتصادية وأغرقتنا في الحياة المادية، كان مؤسسوها يعلمون منذ البداية أنّ الثقافة الإسلامية تقف على الضفة الأخرى منها. لذلك قرروا ذبح المسلمين في الأندلس رغم فضلهم الكبير في نقل أفضل العلوم والمعارف إلى أوروبا. ومن ذلك التاريخ وهم يعيشون على هاجس رفض السلام مع الإسلام. وقد شرح العلامة الجزائري المسلم مالك بنبي المسألة اليهودية في تكوين هذه الحضارة الغربية في كتابه المعنون “وجهة العالم الإسلامي” أحسن شرح وسند لكل من يريد فهم الحضارة الغربية من جوانبها الفلسفية العميقة. وهؤلاء اللذين كتب مالك بنبي رحمه الله بأنّ أحدهم قال في مجلس العموم البريطاني وهو يمسك بيده المصحف “لن يكون سلام في العالم ما دام هذا الكتاب موجودا”، حان الوقت ليعلموا بأنّه “سيكون هناك سلام في العالم ما دام هذا الكتاب موجود”.
الإسلام نعمة الله على الإنسان لأنّه خزان كبير لأسس أخلاقية وقيميه عالمية لا تنضب وقادرة على نشر السلام الروحي بين البشرية. وهذا التباعد الاجتماعي الذي فرضه علينا وباء كورونــــا المستجد -والذي لا شك بأنّه سيكون الهاوية الكبرى لهذا الاقتصاد الربوي المضارب وما سينتج عنها من ويلات اجتماعية عالمية- هو أيضا فرصة ثمينة للبشرية لإعادة التقارب الاجتماعي على أسس أخلاقية وقيميه سليمة بدل هذه الأسس المادية المنهكة للإنسان التي بنيت في الغرب بقيادة أوروبا وأميركا. لما لا ؟… فكل الاكتشافات العظيمة تمت عن طريق الخطأ!… وفيروس كورونا المستجد ربما يكون أحد أخطاء البشرية في اكتشاف عظيم لنظام اجتماعي إنساني جديد!
تونس 18/04/2020
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.