الثلاثاء 8 أبريل 2025
عبد الحق الزمّوري
عبد الحق الزمّوري

يوميات الحجر الصحي الشامل (5)

عبد الحق الزمّوري

في نقاشي اليومي مع عايدة حول قهوة الصباح حمدنا الله على نعمة الحرية التي تجعلنا -رغم كل الانحرافات والفوضى والأنانية التي نراها من حولنا- نتفاعل مع مقتضيات الإجراءات التي تتخذها الحكومة بخصوص التَوَقّي من فيروس كوفيد 19 وخطر انتشاره بين الناس بكثير من التناقض والخصومة، بل وحتى التمرد. “كان على الدولة أن تفعل كذا وكذا…”. هي لم تخطئ. ولم تكن غافلة. هي فقط غير قادرة على التحكم في مقتضيات فضاء الحرية ذاك باستعمال نفس الأساليب القديمة، التي لا يزال كثير من حُكّام العالم يقهرون الناس ويعنفونهم باستعمالها.

قرأت عن عدد من المبادرات الجماعية والعرائض والتوصيات التي تُرسل إلى رئيس الحكومة ورئيس الدولة دعما للمجهود العام في تلك “الحرب” ضد الفيروس (رغم أن آلان توران يتوقف عن استعمال لفظة الحرب، على الأقل بمعناها التقليدي، ويقول إن المواجهة اليوم بين الإنساني واللاإنساني). هذا وجه مشرق لتحمل الناس مسؤولياتها إلى جانب مجهود الرسميين، أمام انفراط عقد انتظام كوني.
بدأت يومي أمس بمتعة الاطلاع على القصيدة الرائعة للصديقة الأديبة ليلى الحاج عمر بعنوان تدريب؛ تقول “الألم هبة البشر وحدهم”… ما أروع هذا القول. وعدتها عن أكتب نصا عن الألم وجائحة الكورونا. وأراني فاعلٌ.
كما عُدتُ إلى فتح دفاتر رواية أخي العزيز محفوظ غزال “متر مربّع” (القاهرة، 2013)… الأرض – العِرض… وكل عِرضٍ أرضٌ… قرأتها بنفَس واحد (125 ص). “ليس أشقّ من الموت إلا توقّعه” (ص 5)… “الطوفان… إنه الطوفان، ولا أثر لسفينة أو شاطئ من الشُطآن” (ص14).

•••

وقفتُ أمام مكتبتي، وتناولت كتابا صغيرا كنت قد شريتُه منذ صدوره عام 2014، وقررتُ ترجمته، ثم غفلتُ عنه لصروف الحياة وانشغالاتها، عنوانه “Que reste-t-il de l’Occident” (ماذا بقي من الغرب؟) وهو عبارة عن حوارية رائقة بين الفيلسوف ريجيس دوريه والإعلامي العالمي رينو جيرارد، حول ما يُعتَقَدُ من انهيار الغرب. الأول متشائم حول مصير الغرب (وأوروبا بالتحديد)، يفكك انهياراته ويعدد مآسيه كنموذج يُحتذَى؛ والثاني على عكسه يدافع عن قيمه ويذكّر صديقه بأفضال الغرب على الإنسانية. يقول الأول (ص 46) “الغرب -في أعماق أعماقه- لم يعُدْ متحمسًا لأخلاقه (avoir la morale de sa morale) ولم يعدْ يُلقي بالا لقيمه (…) تضخّمت عضلاتُه ولكن القلب خانه”؛ ويصرُخُ متبرّمًا (ص 121) “غيّرت تلك العنصرية الحضارية من مصطلحاتها. يتحدث عقل الحروب الصليبية، بأكثر نُبلٍ، عن حقوق الإنسان وعن حماية الشعوب”. ولكن جيرارد يعترض عليه بشدة (ص 133): “ولكني لا أستطيع إطلاقا مسايرتك في ترذيلك الشرس للغرب السياسي للقرن الذي نعيش، والذي تصفه بمنظمة النخبة، المهيمنة والواثقة من نفسها”.
استمتعتُ بقراءة تلك الرسائل “حامية الوطيس” بين عقلين غربيين، ووجدتُ في إحداثيات ما نعيشه هذه الأيام كثيرا من الأجوبة (؟) للرجلين.

قصيدة ليلى الحاج عمر

تدريب

في العزلة، أدرّب نفسي على الألمِ
صباحا أجسّ رقبتي التي تؤلمني إثر نومة غير هانئة
وأقول: لن أذهب إلى الطبيب، كالعادة
سأجهّز نفسي لبعض الألم
وأنشغل بنشر الغسيل على حبل غسيل يرتفع عاليا فأمدّ رقبتي الى فوق
كزرافة افريقية، وأتجاهل الوجع الرّاصد بين كتفي والرقبة
وأقول: سيمضي الربيع بأوجاعه الثّاوية في مفاصل العالم
سيمضي كما أتى.. ثقيلا وخائبا.
سأجهّز نفسي لبعض الألم
فأنسى وجع عينيّ وأنا أقرأ أخبار الموتى الجدد في فرنسا
وأقول: لن أذهب إلى موعدي الربيعيّ لطبيب العيون
وأنشغل بقراءة كلّ الرّوايات التي أجّلت وكلّ الحكايات والأشرطة
وكلّ المقالات التي تحلّل دموع الوزير
وكلّ المقالات التي لم تحلّل
وأدرّب عينيّ على تحمّل الألم كاملا
دون نقص.
سأجهّز نفسي لبعض الألم
فأترك ضرسي يقرع رأسي جرسُه كلّ ليلة وأنام
أنام لأنصت إلى أجراس الكنائس وقت الوباء
وبكاء المآذن
ورنّة انتهاء الأوكسيجين.. في مستشفيات منهكة
وصفير الروح وهي تغادر نحو السماء
ودويّ القنابل وهي تدوّي فوق مدن لا تخاف كورونا.
سأجهّز نفسي
فأترك يديّ تتشقّقان من أثر مواد الغسيل
ولا أرطّبها كما اعتدت سابقا
فينفلق الخنصر دما وأتجاهله
ولن أطلب ألما أقل..
لن طلب ألما أقل
من ألم العالم في هذه المرحلة.
سأجهّز نفسي لبعض الألم
سأجلس ليلا أمام كهوف حديثة
وأخشوشن كامرأة بدائية
أضع قدرا فوق الأثافي
وأسرد في عزلتي حكايات وحوش أكيمو
وألوك الأرض كالذّرة وأعوي
كذئب عند بزوغ القمر.
سأدرّب نفسي على ألم قادم
لا أدري كيف يكون
وسأفكّر:
الألم هبة البشر وحدهم
وسأقول مع الفيلسوف:
ليس في الألم ما يؤلم
نعم
ليس
في الألم
ما يؤلم.

ليلى الحاج عمر
الزهراء 8 أفريل 2020


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

عبد الحق الزمّوري

يوميات الحجر الصحي الشامل (3)

عبد الحق الزمّوري يمرّ اليوم صاخبا… بصمته المُطـْبِق، وهادرا… بهدوئه السائل، يندّ من بين أصابعنا …

عبد الحق الزمّوري

الرئيس القَـدَري .. أو في التخلّق الجديد

عبد الحق الزمّوري عدد ممن أثق في رجاحة عقله، وتجرّد روحه، وتعاليه عن سفاسف الأمور …

اترك تعليق