أبو يعرب المرزوقي
ختمت الفصل الأول من هذه المحاولة بقول شديد التفاؤل مفاده إن الإنسانية بعد جائحة كورونا يعسر أن تنكص إلى ما كانت عليه العولمة قبلها وأنها لن تستطيع التخلي عن الوحدة الإنسانية:
- فبعدها التبادلي الكمالي المقدم على الاستعمالي الضروري في التعامل الاقتصادي وطنيا ودوليا لن يتواصل لأن النكوص إلى أنانية الانغلاق القومي الذي يسود حاليا في علاج الجائحة سيتبين فشله.
- وبعدها التواصلي المقدم للتناكر على التعارف في التعامل الثقافي وطنيا ودوليا لن يتواصل لأن النكوص إلى أنانية العنصرية والطبقية لن يمكن من الخروج من عواقب الجائحة الحالية.
- فالاول يسميه ابن خلدون العمران البشري الذي هو التعاون لسد الحاجتين الماديتين أي شروط البقاء العضوي رعاية وحماية. وهو يعترخ أصل تكون الجماعات وحاجتها لشوكة الدول. عليه بنى المستوى الاول من علمه.
- والثاني الذي بنى عليه المستوى الثاني من علمه يسميه ابن خلدون الاجتماع الإنساني الذي هو التواصل لسد الحاجتين الروحيتين أو الانس بالعشير عاطفيا وذوقيا أي معنى البقاء العضوي وغايته. وهو أصل تسالم الجماعات وحاجتها لشرعية الدول.
- فإذا جمعنا هذه المعاني الأربعة المستويان الماديان والمستويان الروحيان) اكتشفنا الطريق التي توصل إلى الحل الوحيد الذي بقي للإنسانية بعد أن جربت الحل الرأسمالي المعتمد على صراع أرواح الشعوب والحل الشيوعي المعتمد على صراع طبقيات الشعوب تبين أن هذين الصراعين هما الداء وليسا الحل.
وإذن فالحل هو علاج مصدر صراع أرواح الشعوب (المعنى الهيجلي لتفسير تاريخ الإنسانية) وعلاج مصدر صراع طبقات الشعوب (المعنى الماركسي لتفسير تاريخ الإنسانية). وقد اتضح ذلك خاصة في دروس الأول في فلسفة الدين وفي فلسفة التاريخ ودروس الثاني في نقدهما وفي المادية الجدلية.
وكلا التفسيرين السائدين في العولمة المادية التي أدت إلى عجز الامبراطوريات الكبرى (ورمزها الولايات المتحدة والصين) على علاج الجائحة يثبتان أن الحل لن يأتي منهما بل لا بد أن يكون مصدره الرؤية التي سبقت فحددت هذين الدائين وعالجتهما: أعني القرآن الكريم الذي يحاربانه بأدوات هي من أراذل المنتسبين إلى الإسلام حكاما ونخبا في خدمتهم.
لكن هذه الرؤية التي قدمتها في الكثير من المحاولات السابقة قبل الجائحة وأرجعتها إلى آيتين أولاهما تتجاوز صراع ارواح الشعوب وهي النساء 1 والثانية تتجاوز صراع طبقات الشعوب وهي الحجرات 13 حال دون تبينها أمران آمل أن تكون الجائحة مساعدة على إزاحتهما:
- الأول ذاتي لفكر الامة وهو قلب علمائها العلاقة بين ما أمر به القرآن لفهم معانيه بجعلهم الأمر فيه نهيا وأعني فصلت 53 وجعلهم النهي أمرا واعني آل عمران 7. فغاب البحث العلمي الذي يأمر به القرآن شرطا في الاستعمار والاستخلاف في الارض وحضر التأويل الباطني الذي ينهى عنه ومنه خرافة الاعجاز العلمي.
- والثاني ناتج عن عقد المقلدين. إنه قراءة حلول الإسلام بأفسد منطق ويتمثل في اعتبار الوسطية القرآنية توسطا بين شرين-خرافة لا افراط ولا تفريط- أي بين الرأسمالية والاشتراكية أو بين المسيحية واليهودية إلخ… من البين بين وهو فهم قاصر لنظرية أرسطو في الفضيلة مع تبني خرافة “التدافع” التي هي جوهر الصراعين.
فإذا حللنا ما ترتب على “أولا” تبين أن الأمة فشلت في التعمير والتدبير فاصبحت كما قال ابن خلدون عالة على غيرها بعد أن فسدت فيها أي في جل نخبها وحكامها معاني الإنسانية بسبب التربية والحكم العنيفين وهما علة قلب فصلت 53 وآل عمران 7:
- إذ أصبح في الأمة سلطة روحية أشبه بالكنسية تؤدي دور الوسيط بين المؤمن وربه. وهذه الوساطة بدأت بالتصوف الذي حرف الزهد ثم انتقلت إلى الفقه الذي حرف الشرع إذ إن الفقهاء- حتى يحافظوا على رضا الحكام- نافسوا المتصوفة في خرافة “الحاكم ظل الله في الأرض” أو “ولي الأمر”.
- وتحريف التصوف والفقه أضفى بهذه الواسطة شرعية على الوصاية بين المؤمن وشأنه أي بالشوكة الروحية أو الحكم بالحق الإلهي عند الشيعة وبما يشبهه في الغاية عند السنة أي بالشوكة المادية أو الحكم بقوة العصبية: لا فرق بين ولاية الفقيه الذي يحكم بعصابة الحرس وولي الأمر في السعودية التي تحكم بعصابة القبيلة.
وإذا حللنا ما ترتب على “ثانيا” تبين أن ما ترتب على أولا جعل كل الفهوم تقرأ القرآن بنظرية أرسطو في الفضيلة بالمقلوب. ذلك أن أرسطو لما قال إن الفضيلة وسط بين رذيلتين لم يجعل الرذيلتين منطلق التعريف بل العكس تماما. وهو قد اعتمد في ذلك مفهوما رياضيا: الزاوية القائمة تبدو وسطا بين الحادة والمنفرجة.
لكن القائمة هي أصل التعريف وليس العكس أي إن الحادة دون القائمة والمنفرجة فوق القائمة. والرذيلة في حالة القيم الخلقية تعرف بالابتعاد عن الرذيلة وليس وسطا بين الرذيلتين وإلا لصارت الرذيلة الأكبر من الوسط أفضل أكبر منه مثل المنفرجة. ومعنى ذلك أن الإنسان يعلم الفضيلة وهي الذروة وينحرف عنها. ولا يبدأ بمعرفة الرذيلة ثم يبتعد عنها ليطلب الفضيلة.
قد يبدو الأمر سواء. لكن حينها نحرف مفهوم الفطرة. حسن فلنأخذ مثال التطفيف في المعاملات. كيف للبائع أن يخسر وللشاري أن يستوفي؟ أليس لأنه يريد إفساد الميزان؟ أليس الميزان هو الذي ننطلق منه لمعرفة المطفف إخسارا إذا كال واستيفاء إلى اكتال؟
والظلم كيف نعرفه: ألا يعلم المظلوم العدل ؟ والظالم لو وضع نفسه محل المظلوم ألا يعلم العدل؟ وقس عليه الحق والباطل والصدق والكذب إلخ…فهل معنى ذلك أنه يعرف العدل بالظلم مثلا؟ أم إن معرفة العدل فطرية والظلم انحراف عنه؟ وإذن فالعدل ليس وسطا بين ظلمين بل هو معيار فطري به يتم تحديد الظلم.
لماذا ضربت هذه الامثلة؟ لأننا راينا في الفصل الأول أن ما يحدث في حالات الضرورة هو العودة إلى السلّم الأسلم بين القيمتين الاقتصاديتين: فالقيمة الاستعمالية تستعيد منزلتها لضرورتها لأن القيمة التبادلية تفقد منزلتها لعدم ضرورتها. لكن ذلك لم يترتب عليه عليه إصلاح السلم الاجتماعي بل يزداد الأمر سوءا كما شرحت ذلك أمس.
وعندئذ نكتشف الأن أن المشكل لا يتعلق بقيمتي سد الحاجات المادية (المائدة والسرير: القيم الاستعمالية) والحاجات المعنوية (فن المائدة وفن السرير: القيم التبادلية) بل بنوعين آخرين من القيم سماهما ابن خلدون: “معاني الإنسانية” التي تفسدها التربية والحكم العنيفين.
فيكون المشكل في قيمتين أولاهما تتعلق بالتربية المحافظة على كرامة المتعلم والثانية بالحكم المحافظ على حرية المواطن وهما بعدا السياسة التي تكون متلازمة مع القيم الخمس التالية:
- المحافظة على حرية إرادة الإنسان.
- المحافظة على صدق علم الإنسان.
- المحافظة على خير قدرة الإنسان.
- المحافظة على جمال حياة الإنسان.
- المحافظة على جلال رؤية الإنسان.
وهذه القيم الخمسة إذ نظرنا إليها من حيث هي وازع ذاتي (الضمير الخلقي ) تمثل نظام التربية الخلقي وإذا نظرنا إليها من حيث هي وازع اجنبي (الوعي القانوني) كانت نظام الحكم الشرعي. وهذا هو الحل الذي يقدمه ابن خلدون لتحقيق معنى الآية 38 من الشورى.
كيف ذلك؟ فلنقرأ هذه الآية في ضوء نظريات الحكم لحظة نزول القرآن الكريم “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”.
- فالاستجابة للرب تعني أمرين: لا رب غيره والربوبية للجميع دون تمييز بين الأديان بخلاف الألوهية.
- الصلاة تعني أمرين: الدعاء عامة وأسلوب متعدد بتعدد الأديان وإذن دون تمييز بين الأديان.
- “أمر + هم” تحدد طبيعة النظام السياسي: “امر = راس باللاتينية” ثم” هم ضمير يعود على الجماعة =بوبليكا باللاتينية” وإذن فالنظام السياسي جمهوري=راسبوليكا.
- “شورى +بينهم” تحدد أسلوب الحكم : “شورى الجماعة الملزمة والمباشرة وهي معنى الديموقراطية باليونانية.
- “ومما رزقناهم ينفقون” الغاية هي الاقتصاد الاجتماعي: غاية الجماعة والدولة.
وهذا يحررنا من صراع أرواح الشعوب الهيجلي لأن البشر اخوة: النساء 1. كلهم من نفس واحدة. ويحررنا من صراع الطبقات الماركسي لأن البشرمتساوون: الحجرات 13. خلقوا للتعارف معرفة ومعروفا وليس للتناكر.
والجائحة بينت أن الأمر ليس يوتوبيا كما يتوهم هيجل في نقد الرؤية القرآنية بل هو الحل الوحيد للخروج من الحرب الأهلية الكونية بين البشر: ذلك هو الحل القرآني وهو الوحيد في المستقبل.
الأن هل لذلك أساس واقعي؟ نعم: وسأكتفي بعلاقتنا نحن بأوروبا. فهم ونحن نمثل قلب المعمورة جغرافيا وتاريخيا وكلانا يواصل منبعي الرؤية الإنسانية الحديثة أي الفلسفة اليونانية والأديان المنزلة. وإذن فكلانا نشبه الزاوية القائمة الإنسانية: بالقياس إلينا تحدد الزاوية الحادة والزاوية المنفرجة القيميتين.
أليس مشكل المشاكل في أوروبا اليوم هو عنصرية الإسلاموفوبيا. ولهذا الخوف علتان أولاهما هي تاريخ العلاقة بين الحضارتين العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية. والثانية هي مشكل الديموغرافيا (السرير) والاقتصاد (المائدة) وفنيهما أي المسألتين اللتين تبين أنهما في علاقة بالضروري للقيام العضوي والروحي ؟
أليس من تبعات الجائحة أنها ستقضي على هذين العلتين في الصراع بين المجموعتين رغم أنها في الظاهر تبدو وكأنها ستعمقهما؟ فهل يستطيع النظام الأوروبي استرداد توازنه من دون مصالحة مع محيطه الإسلامي حول الأبيض المتوسط خاصة من أجل المشكل الاقتصادي والديموغرافي إذا أراد المحافظة على شروط التوازن في النظام العالمي بالقياس إلى الإمبراطوريات العملاقة.
ألا نكوّن نحن وأوروبا عملاقا خامسا قادرا على تحقيق التوازن في نظام العالم بين طرفيه الشرقيين (الصين والهند) والغربيين(الولايات المتحدة والبرازيل) فنكون نحن في الوسط قلب الإنسانية وأصل الحضارة الحالية ببعيدها الديني والفلسفي بعد أن يتحرر الجميع من تاريخ القرون الوسطى وقرون الاستعمار؟
ذلك هو مصدر تفاؤلي وسره. فذلك هو الحلم الذي أوحت عزلة الكورونا بإعادة التذكير به لأنه كان حلمي قبلها وكتبت فيه الكثير. واعتقد أن الجائحة يمكن أن تساعد على إدراكه وفهم دلالته لأني لا اعتقد أن العجز الحالي الذي أدركه من كانوا يتصورون أنهم أقوياء والذي لم يعد أحد ينكره -بمن في ذلك الحمقى مثل ترامب.
إن ذلك سيفرض على الجميع التسليم بأن قصة الناموسة التي أعجزت النمرود هي عين قصة الكورونا وسيصبح الإنسان مدركا لحدوده فلا يتأله ولا يتربرب ويؤمن بأن الله فوق الجميع فيفهم النساء 1 والحجرات 13 ويرى ما يريه الله من آيات الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (كيانه العضوي وكيانه الروحي) كما حددت ذلك فصلت 53.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.