أبو يعرب المرزوقي
لأول مرة سأبدأ بالنتيجة التي سأصل إليها في غاية المحاولة. فلعل ذلك يسهم في تحقيق شرط الصبر لدى القاريء ليتابع الاستدلال اللاحق بدلا من أن يكون سابقا. فالغاية هي بيان ما يترتب على الفرضيتين التاليتين:
- إذا كانت الأزمة شاملة لكل البشر فما بينهم حاليا من نسب في كل شيء متعلق بشروط البقاء الطبيعي والحضاري ستتغير بنفس النسب.
- إذا كان الانتاج الاقتصادي والثقافي سيتراجع فمن المفروض أن كلفته ستتراجع مثله. ومن ثم فيكفي أن يتراجع الاستهلاك مثله فتحصل فرضية الحد الأدنى من شروط البقاء بالنسبة إلى الجميع.
- ويترتب على أولا أن ما سيغير الفرضية الأولى هو ما يترتب على ما بين البشر من فوارق في شروط البقاء الطبيعية والحضارية الموجودة بينهم والمنشودة منهم الآن.
- ويترتب على ثانيا أن ما سيغير الفرضية الثانية هو ما يترتب على ما بين الانتاج وكلفته من فوارق بسبب عدم التناظر بين الانتاج والاستهلاك المحقق للحد الأدنى لشروط البقاء للجميع الآن.
- فيصبح المشكل الواحد في الحالتين متعلقا بعدم تكييف سياسة العالم وأخلاقه قبل الأزمة بما يمكن من تجاوزها بل النكوص بهما إلى ما سيفاقمها. ومعنى ذلك أن ما آل بالبشرية مثلا إلى حرب بين البشر أو حرب بينهم وبين الطبيعة هو ما ينكص إليه البشر بدلا من تجاوز الأزمة بتجاوز ما أدى إليها من صراع بين البشر وصراع بينهم وبين الطبيعة.
تلك هي النتيجة التي أريد بيانها والتي هي في آن تشخيص دقيق للازمة ومفتاح لحلها. واعترف أنها ليست يسيرة البيان. خاصة وهي تتعلق بشروط البقاء في الضراء وليس في السراء. ولما كانت هذه الشروط في مستواها المباشر اقتصادية وثقافية فإن ما سيعترض على المحاولة هو حجة الاختصاص.
صحيح أني ليست مختصا في التموينين الاقتصادي والثقافي للجماعات البشرية رغم أني درست الاقتصاد والقانون الاقتصادي في النظام الفرنسي. لكني أعتقد أن الأمر غني عن الاختصاص الضيق. فكلا التموينين يرد في عمقه إلى مسألة سياسية من حيث أدوات العلاج ومسألة خلقية من حيث غاياته.
- فالانتاج الاقتصادي يتعلق بسد الحاجات العضوية خاصة.
- والانتاج الثقافي يتعلق بسد الحاجات الروحية خاصة.
- والأول بخلاف ما يظن تابع للثاني لأنه لا اقتصاد من دون علم (علة فاعلة) وقيم (علة غائية). وكلاهما انتاج ثقافي مشروط في الاقتصادي شرط أدوات عمل وشرط مناهج تحقيق.
- ولا أنكر أن الاقتصادي شرط تمويل واستثمار(تعريف ابن خلدون للفرق بين العمران والاجتماع في المقدمة). لكن الثقافي بالمعنى المذكور شرط الشروط.
- ولهذه العلة فأصلهما المشترك سياسي وخلقي بمعنى أن الجماعة ذات السيادة هي التي لها الإرادة (شرطها الحرية) والقدرة (شرطها الكرامة) لوضع استراتيجية في لحظة السراء لتكون مستعدة للحظة الضراء فتبقى محافظة على شروط البقاء.
والاقتصاد والثقافة كلاهما على نوعين ينتج عنهما مفهوم القيمة المتناقض الذي يجعل الكمالي اثمن من الضروري في لحظات السراء. لكنه يعيد الأمر إلى نصابه في الضراء فيجعل الضروري أثمن من الكمالي. ومعنى ذلك أن الخبز(العيش في الشرق) اليوم أهم من الذهب. فقد تبيع النساء حليها لتغذي أبناءها.
إلا أن هذه الأعادة في مستوى القيمة لن تجعل الفلاح ثريا والمضارب فقيرا. ومن ثم فإن ما سيبقى مصدرا للمشكل هو أن السياسي والخلقي لن يتغير ما لم تحصل ثورة روحية. وهذه هي المناسبة للبحث في شروط حصولها.
فالسلطان المستمد من سد الحاجتين وأثرهما الاجتماعي هو الذي سيزداد بسبب العاملين السياسي والخلقي. والعلة هي عيوب الجماعة التي كانت مسيطرة في السراء والتي ستعتبر الضراء فرصة لمزيد السيطرة: من هنا مشكل الاحتكار والمضاربة وربا الاموال وربا الاقوال (وكلها درسناها سابقا وتقدم علينا ابن خلدون فيها وله دائما السبق في هذا المجال).
فمن كان يقدم قيمة التبادل على قيمة الاستعمال في الاقتصاد وفي الثقافة -بمعنى أن ما هو ضروري للبقاء ماديا كان أو روحيا يجعلونه أدنى قيمة مما هو كمالي -هم عينهم من سيتمكنوا من التحكم في شروط البقاء الاستعمالية بما حققوه من ثراء في الحالة الأولى: يرفعون في قيمة الاستعمالي كما رفعوا في قيمة التبادلي فيستفيدوا من الظرفيتين.
ولذلك فالمستفيدون من الكمالي في السراء هم عينهم من يستفيد من الضروري في الضراء. وإذن فمشكل المعادلة غير العادلة علتها ثبات السيطرة في الحالتين وهي ناتجة عن السياسي والخلقي.
فتغير تراتب القيم يبقى على نفس المعادلة بين الثروة والسلطة في غياب العلة الاعمق لفساد المعادلة التي يريد الإسلام تقويمها. فعدم وجود القيم المتعالية على الاستعمال والتبادل هو سر المعادلة الظالمة: وهي فساد الأخلاق العامة في الجماعة واستبداد نظام الحكم المترتب عليها.
أي إن تقديم الكمالي في السراء وتقديم الضروري في الضراء كلاهما يعود بالفائدة على مفسدي المعادلة العادلة بين الانتاجين والاستهلاكين الاقتصادي والثقافي في الجماعة الجزئية (ثروات أمة معينة) أو في الجماعة الإنسانية ككل (ثروات الطبيعة والحضارة).
وقد بين ابن خلدون أن ذلك ملازم “لنحلة العيش” مهما تطورت. وهي تتطور خلال انتقالها من الاعتماد على الانتاج الطبيعي إلى الاعتماد على الانتاج الإنساني أو من العمران البدوي إلى العمران الحضري.
فقد بين ابن خلدون أن المدينة تغتذي مما ينتجه ما يحيط بها من عمران بدوي غير مرتحل تابع لها وخاضع لقوانينها. وهذا بين في كل الحضارات حيث يكون ما حول المدن تابعا للمدن وأهلها إذ يكاد الريف التابع مؤلفا من خدم أهل المدينة. والعلة هي تبخيس العمل الذي يسد الضروري.
ومن ثم فالسياسي والخلقي لهما بنية أعمق هي بنية توازن القوى بين العمرانين. والمثال الذي يضربه ابن خلدون هو انتقال البداوة من رمز القوة والاستقلال لما كانت نحلة العيش مستمدة مباشرة من الطبيعة إلى رمز الضعف والتبعية للمدينة عندما صارت نحلة العيش مستمدة مما أضفاته الحضارة للبداوة انتاجا واستهلاكا.
فإذا انطلقنا من هذه الملاحظة أمكن القول إن شروط البقاء التي تتجلى خاصة في لحظات الحرب بشكل هذا الانقلاب:
- في تراتب القيم حيث يصبح الاستعمالي مقدما على التبادلي.
- وفي توازن القوى بين دور الطبيعي ودور الحضاري في نحل العيش.
- حينها يتبين أمران:
- أولهما يتعلق بالمائدة وفنها (كناية عن الغذاء وما حوله).
- والثاني يتعلق بالسرير وفنه (كناية عن الجنس وما حوله).
فالضروريات تجعل المائدة مقدمة على فنها لأن سد الحاجة الدنيا للبقاء العضوي مقدم على الذوق والتنويع فيه.
والضرورات تجعل السرير مقدما على فنه لأن سد الحاجة الدنيا من الغريزة والنسل مقدم على الذوق والتنويع.
لكن هذا الانقلاب القيمي لا يستفيد منه من يسد حاجة المائدة والسرير بل من كان مسيطرا على قيمهما السابقة لما كان الفن هو المؤثر والذي يرفع من ثمنهما بانقلاب التراتب بين الاستعمالي والتبادلي.
ومعنى ذلك ان الذي كان مسيطرا على قيم فنيهما بما حصله يصبح محتكرا لهما فيستفيد من هذا التحول القيمي حتى بعد فقدان الفنين فيصبح الاستعمالي الإلى من التبادلي: يصبح الغذاء والماء والدواء والجنس أغلى مما كان يستعمل مزينا للاستمتاع بها باعتبارها فنونا.
وبهذا أصل إلى ما يتجاوز الاختصاص في الاقتصاد والثقافة أي إلى ما اعتبره جوهر الفلسفة. فهي البحث في تشاجن الاختصاصات عند ردها بالتجريد إلى شروط البقاء التي تتجلى في أزماته وأهمها الحروب سواء كانت ناتجة عن صراعات البشر عليها أو عن صراعاتهم مع الطبيعة.
فيصبح المشكل كله عين ما يسميه الفلاسفة الفلسفة العملية ويسميه الدين السياسة الشرعية التي تحقق الاستعمار في الأرض (العمران البشري بلغة ابن خهلدون) والاستخلاف فيها (الاجتماع الإنساني بلغة ابن خلدون كذلك) وذلك هو قصده بعنوان المقدمة:
- بعدها الأول يتعلق بالغايات من الوجود الجمعي: أي باخلاق التعامل بين البشر خلال التعاون من أجل سد الحاجات المادية أو الاقتصاد الذي هو ثمرة تقاسم العمل والمستهلك لما يسدها ليس بين الأحياء فحسب بل حتى الأموات يشاركون فيه بما تركوه من ثروة وخبرة. وهو ليس خاص بجماعة دون جماعة بل هو كوني بالطبع.
- بعدها الثاني يتعلق بالأدوات التي تحقق تلك الغايات: أي بسياسة التعامل بين البشر سياسية تجعله تعايشا سلميا يكون فيه التعاوض العادل ليتواصل التعاون خلال التعاون من أجل سد الحاجات الروحية أو الثقافة التي هي العلوم وتطبيقاتها في الانتاج والاستلاك والقيم وتطبيقاتها في العيش المشترك. وهي كونية كذلك ويشارك في الموتى والأحياء وكل الإنسانية.
ولأن ذلك كذلك توقعت أن الإنسانية هذه المرة بدأت تفهم أنها أمام خيار شديد الوضوح . فإما أنها ستنكص إلى ما قبل العولمة المادية الحالية أو أنها ستتجاوزها إلى ما يتدارك عيوبها لأن الأزمة الحالية علتها عيوبها وليس ذاتها.
والتجاوز هو عين المعادلة العادلة. فإذا علمنا أن الغايات والأدوات كلتاهما كونية وأنهما عمل الإنسانية كلها في كل تاريخها فإننا سنفهم أن ما ينقص العولمة هو:
- إصلاح الأخلاق العالمية لتطابق الغايات فتكون مثلها كونية وتطبق مبدأ “النساء 1”: كل البشر اخوة لأنهم من نفس واحدة. وذلك ليس مقصورا على الاحياء منهم بل حتى الموتى لأنهم السلف الذي أسهم في ما يستفيد مه الخلف.
- إصلاح السياسية العالمية لتطابق الأدوات فتكون مثلها كونية وتطبق مبدأ “الحجرات 13”: كل البشر متساوون ولا تمايز بينهم لا بالجنس ولا بالطبقة ولا بالعنصر وهم مطالبون بالتعارف معرفة ومعروفا وأنه لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.
وهذا ليس يتوبيا-بخلاف ما يقول هيجل عن الإسلام الذي وضع هذه المباديء بل هو الحل الوحيد الذي من دونه لا يمكن للإنسانية أن تخرج مما آل إليه أمرها الحالي. فمن دونه سيكون النكوص إلى حرب كونية مدمرة غايتها احتكار شروط البقاء باستعمال أسلحة الدمار الشامل: وقد يكون كورونا أحدها من يدري.
ولما كنت واثقا من أن الإنسانية بعد هذه الجائحة لن تختار النكوص عن العولمة المادية بالعودة إلى ما بات مستحيلا أعني صراع الامبراطوريات الاستعمارية على تقاسم العالم المتخلف -لأنه لم يبق عالم متخلف اليوم فإن متفائل بأن الخيار سيكون خيار المعادلة العادلة.
لم يبق في العالم من هو متخلف قابل للاستعمار لعلتين: 1-فعدم الوعي بالحرية والكرامة فقد آخر معاقله أعني دار الإسلام وما حولها والدليل أن الأنظمة التابعة تحتضر منذ أن شرع شباب الامة في معركة التحرر واكتشف أن شرطها استكمال معركة التحرير.
ولم يبق في العالم شعب يعجز عن المقاومة بالوسائل الحديثة التقنية في الحرب العنيفة بأسلحة العصر التي تستفيد من العلاقة بين الكلفة والفاعلية كما بينت في بحوث سابقة وفي الحرب اللطيفة بأسلحة العصر التي تستفيد من التواصل الحديث الذي يمكن أن يبني وحدات قيمية متعالية على الحدود السياسية.
وهذا يعني أن ما كان ممكنا في بداية عصر الاستعمار لم يعد ممكنا في الخيار الثاني اي ألنكوص إليه فإن الحل الوحيد هو تخلي القوى الاستعمارية ومافياتها عن مشروع التعامل مع الإسلام كما تعاملوا مع الشيوعية مثلا: فالاولى هي التي بينت فساد العولمة المادية سواء كانت ليبرالية أو اشتراكية.
فشل الحل الشيوعي تلاه فشل الحل الرأسمالي: ذلك هو مغزى كورونا الاقتصادي والثقافي بسبب فساد العلاج الخلقي والسياسي. وإذن فالعولمة المادية أصبحت بحاجة إلى العولمة الروحية: وذلك هو جوهر الرسالة القرآنية.
وذلك هو معنى كونها الرسالة الخاتمة كما بينت في شرح هود وأخواتها وعلة وصف الرسول مفعولها فيه بأنها شيبت رأسه بما طلبته من أجل علاج أدواء البشرية: العلاقة بالطبيعة (نوح) وبالاقتصاد (هود) وبالماء (صالح) وبالجنس (لوط) وبشروط التبادل العادل (شعيب) والدولة المستبدة (موسى).
ووصل كله بجعل التوحيد الإبراهيمي من مجرد مشروع عقدي إلى مشروع سياسي وخلقي وذلك هو جوهر الفرق بين الحنيفية الابراهيمية والحنيفية المحمدية. لذلك فكلامه على الأرض كلها مسجدا ودولة إسلامية ليس بمعنى التدين الشعاري بل بمعنى أخلاق وسياسة تطبيقان النساء 1 (الأخوة البشرية) والحجرات 13 (المساواة والتعارف بينهم)..
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.