سامي براهم
نقد سياسات تركيا وأجنداتها في المنطقة وتقييمها واتّخاذ موقف أو موقع منها بحسب المصالح الوطنيّة والقوميّة أمر مطلوب سواء من الدّبلوماسيّة الرسميّة أو المنظمات الوطنيّة والنّخب الفكريّة والسياسيّة، لكن تغليف ذلك بإسقاط معطيات التّاريخ على الحاضر ليس إلّا توظيفا إسقاطيّا ينتهك أبسط الشروط المنهجيّة لعلم التّاريخ.
وصف التّرك بالغزاة والخلافة العثمانيّة بالاحتلال خاصّة من ذوي المرجعيّة القوميّة العربيّة يقتضي وصف العرب الفاتحين بالغزاة والدّول التي أقاموها خارج صحراء الجزيرة العربية “العراق، الشّام، مصر، شمال إفريقيا…” بدول احتلال وهو وصف قائم لدى من يريدون إحياء النعرات القوميّة والعرقيّة بدعوى أنّهم السكّان الأصليّون لتلك المناطق مقابل العرب الوافدين.
لقد تعاقبت على مناطقنا دول وغزوات وهجرات واختلاط عرقي وثقافي ولغوي وأنشئت مدن وحواضر وحضارات خلّفت وراءها معالم لا تزال شاهدة على وجودها، سادت وحكمت بمنطق عصرها ومعارفه ومعاييره ولا يمكن بأيّ حال محاكمتها بمنطق عصرنا الذي شهد نقلة ابستمولوجيّة نوعيّة.
وهذا ليس خاصّا بالمنطقة العربيّة فكلّ الكيانات السياسيّة في العالم كانت حدودها تتقلّص وتتمدّد قبل ترسيم الحدود الذي شهدته أوروبا بعد صلح وستفاليا عقب حروب أهليّة طويلة خاضتها إبّان الحكم الإمبراطوري القائم على تحالف الملكيّة والكنيسة، ودخلت أوروبا لأوّل مرّة عصر الدّول الوطنيّة “états nations” ذات الحدود المرسّمة التي تربط بينها مواثيق ومعاهدات.
آلت الخلافة الإسلاميّة للعثمانيين الذين بسطوا نفوذهم وفرضوا الولاء باسم الخلافة على المناطق التي كانت تحت نفوذ الخلافة الإسلاميّة من قبل، وكانت الخلافة العثمانيّة ذات طابع توسّعي ككلّ الكيانات السياسيّة الامبراطوريّة سواء القائمة قبلها أو المعاصرة لها، وصلت أوجها بغزو درّة الحضارة الغربيّة “القسطنطينيّة التي أصبحت اسطنبول”، فبنت حضارة ومجدا للمسلمين قبل أن تتحوّل إلى رجل مريض يقع تصفية تركته وتقسيم ولاياتها وإلحاقها بنفوذ الدّول الاستعماريّة ضمن اتفاقية سايكس بيكو بعد أن وعدتها بالاستقلال الوطني.
نقد تاريخ هذه الخلافة وسياستها في الإيالات التي كانت تابعة لها موكول لأهل الاختصاص والمحقّقين النّزهاء الذين لم تلوثّهم العصبيّات الأيديولوجية.
لكن اعتبار التّاريخ المشترك معها شبيها بالعلاقة مع الدّول الاستعماريّة التي احتلّت مناطقنا إبّان الحركة الاستعماريّة الحديثة وألحقتها قهرا وقسرا وأخضعتها لمصالحها هو ضرب من تزييف الهويّة التّاريخيّة والحضاريّة والانسلاخ عن الذّات لدواع سياسويّة أيديولوجية ظرفيّة آنيّة.
لا فرق بين الأمويين والعباسيين والبوهيين والسلاحقة والفاطميين والعثمانيين وكلّ الأعراق والأجناس والثّقافات والحضارات التي تعاقبت على مناطقنا وشعوبنا واندمجت في هويتنا وأصبحت جزءً عضويّا منّا وأصبحنا جزءً عضويّا منها حتّى أصبحت محاولة طمسها ضربا من العبث وتكريسًا للوعي الانشطاري والاستلاب الحضاري.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.