نعم… المعارضة حلال
توفيق رمضان
المعارضة بمعنى من كان مختلفا عنا سياسيا وفكريا.
سؤال طرح قديما ولازال يطرح اليوم وغدا وهو هل ان المعارضة بدعة محدثة ورجس من عمل الشيطان علينا اجتنابه والابتعاد عنه بل ربما الاغتسال منه للتطهر ؟ سبب طرح السؤال الآن هو متابعتنا لمفاوضات تشكيل الحكومة وما صاحبها من توقعات عن من يكون في الائتلاف الحاكم ومن يجلس على كرسي المعارضة. هناك استبطان لدى العامة لفكرة أن المعارض هو شخص سيء معرقل لمسار التنمية وواضع «العصا في العجلة» حتى لا يتحقق الخير العميم للشعب الكريم. هنا استحضر لقطة من فيلم «احنا بتوع الاوتوبيس» في المعتقل الذي جمع فيه النظام كل صوت معارض وكان السجان يعذب المعتقلين لانه يعتقد انهم ضد مصلحة البلد او كهذا شبّه له، ثم وقعت النكسة والهزيمة فبدا يبكي ويقول ها أن كل «الوِحْشِين هنا مقبوض عليهم انهزمنا ليه ؟». ظلت العامة العربية تعتقد لسنين ان ما أهلك الأمة إلا تلك الأصوات المعارضة التي لا يعجبها العجب العجاب وكأن الوضع كان على ما يرام والغريب أن تجد من يدافع عن نظام او منوال جعله لا يملك قوت يومه بل ويستميت في الدفاع عنه ويرفض ويشيطن كل معارض يمكن أن يقوده الى نيل حقه في بلده.
الديمقراطية تقتضي أن يكون هناك طرف يحكم وآخر يعارض، والمعارضة ليست فعلا مشينا أو خطيئة او زلّة بل هي فعل لازم وضروري لاكتمال المشهد الديمقراطي ولبناء الدولة. من يحكم له كل الحق في بلورة تصوراته ورؤاه لتحقيق وعوده الانتخابية لضمان ديمومته على كرسي السلطة، ومن يعارض له تقديم مقترحاته وتعديل وتصويب ما يراه خاطئا وكذلك دعم وتدعيم التوجه الذي يراه صائبا. فليس من يحكم هم الأخيار ضرورة ومن يعارض هم الأشرار لذلك وجب مهاجمتهم وتشويههم وتصويرهم كخونة للوطن أو ككفرة فجرة.
تعامل السلطة مع الأصوات المعارضة كان دائما وفق منهجين إما ترغيبا أو ترهيبا، فمن لا يُشترى، الحل معه في العصا، وهذا ما قام به الباي مع القبائل زمن علي بن غذاهم فقرّب بعضها وأغدق عليها لضمان موالاتها واستعمالها كخط أول في مواجهة ثورة القبائل المساندة لبن غذاهم التي طالبت بالحط من المجبى ولم ينجح الباي في شراء أصواتها، فكان الحل في محلة أحمد زروق التي مارست أبشع جرائم التقتيل ضد الرجال والنساء والأطفال ليتم بعدها القاء القبض على زعيم الثورة/المعارض ويحمل للعاصمة ليتم اعدامه امام الجميع ليقال لهم هذا مصير كل من يتجرأ ويصدح بكلمة لا.
تواصل ذلك مع بورقيبة الذي كان ككل الزعماء العرب وقتها يرى أن مسألتي الديمقراطية والحرية ليستا أولوية في بناء البلد لذلك لا يرى موجبا لوجود أصوات معارضة لأن ذلك عامل تعطيل وجذب للوراء فقتل بعضا من معارضيه صالح بن يوسف، الشرايطي… وسجن آخرين بعد محاكمات صورية وتلفيق تهم على المقاس نقابيين، جماعة برسبكتيف وإسلاميين وقوميين وغيرهم… وضيق الخناق على اصوات اخرى ونجح في تدجين الكثير حتى أصبح الكل يسبح بحمده صباحا مساءا في المقاهي والأسواق والمساجد والتلفزة والراديوات وعشنا سنينا تحت التوجيهات. ورث بن علي عن بورقيبة طريقة التعامل مع كل نفس معارض وزاد عليه بحكم تكوينه الأمني. فبعد سنتين أرادها لتثبيت نفسه وتحسس المكان نجح في جعل تونس سجنا كبيرا تشرف عليه قيادات قليلة لكن بواسطة «شيفان شنبرة» كثر لا يعرفون بعضهم ويخاف كل منهم الآخر لضمان ولائهم وسعيهم الدؤوب لارضاء اسيادهم لأن في ذلك خدمة لبلدهم كما اوهموهم من خلال ملاحقة المثقفين من كتاب وصحفيين وحقوقيين وسياسيين فسعى إلى اختراق كل جمعية أو منظمة (الاتحاد، نقابة الصحفيين، رابطة حقوق الإنسان، جمعية القضاة، عمادة المحامين…) لانه يرى فيها تهديدا لوجوده وشرعيته بما تسعى إليه من تثقيف وتكريس لمبادئ الحرية والعدالة والتداول على السلطة والديمقراطية وبما يحمله ذلك من فضح لكل الممارسات المخالفة لهذه القيم. حاول بن علي طيلة فترة حكمه جعل كل البلاد «لجنة حي» يراقب اعضاؤها كل من يدخل ويخرج. فادخل أعوان الامن للجامعات ليتم تدجين ومحاصرة كل فكر حر لخلق جيل تافه مغيب عن قضايا بلده فسقطت السرديات وانتشرت التفاهات.
عقدين من الزمن نجح فيهما بن علي في إحكام سيطرته على كل مفاصل الدولة حتى بات الواحد يقول أن لا منجى منه إلا الله خاصة مع ما مارسه من توزيع عادل للقمع الذي اكتوت بناره كل العائلات السياسية من إسلاميين وقوميين ويساريين والخوارج من الدساترة الذين مازال بهم حنين لبورقيبة.
ثم جاءت ثورة ديسمبر /جانفي 2011 ليتنفس فيها الجميع هواءا نقيا، هواء الحرية، فسمعنا اغاني الشيخ امام، اولاد المناجم، البحث الموسيقي بقابس… نعم أصبح للنشيد الرسمي وقعا آخر وتصالحنا مع التاريخ فكرمنا شهداء ناضلوا من اجل الحرية واعترفنا لهم بالجميل وأصبح المعارضون يحكمون البلد، من كان يلاحقه البوليس السياسي ويتجسس عليه ليحسب عليه انفاسه وحروفه وكلماته استعاد حريته وعادت إليه شهية الكتابة والقول. إلا أن ما يثير المخاوف الآن بعد قرابة عقد من الزمن من الثورة زيادة على ترذيل العمل السياسي والأحزاب هو شيطنة المخالف وكل من قال لا في وجه من قالوا نعم. إن كان الباي وبورقيبة وبن علي عمدوا إلى إخماد كل صوت حر بالقبضة الأمنية ففريقا قتلوا وفريقا سجنوا فإن التعامل مع كل نفس معارض الآن هو بالقبضة الفايسبوكية زيادة على الاعلامية التقليدية فمن له الإمكانيات المادية الضخمة يمكنه انشاء الصفحات والمواقع الموالية لتشوه كل مخالف في الانتماء السياسي والفكري فتحضر النعوت والتوصيفات وتختلف من عميل غربي الى كافر حداثي علماني الى ارهابي رجعي.
ما يمكن ملاحظته هو أن الباي او بورقيبة أو بن علي كانوا منا، يشبهوننا… لا يقبلون كل مخالف لهم وهي عقلية فرعونية أساسها لا أريكم إلا ما أرى وان لا احد يخاف على البلد اكثر منه أو له حس وطني أعمق منه.
المتأمل في الساحة الثقافية والسياسية اليوم يلحظ هذا الكم الهائل من القصووية والتمترس خلف مقولات لا يهم صحتها من عدمه إنما ما يقلق هو رفض كل مخالف فكري أو سياسي وتصويره كعدو في زمن خلنا أننا طلقنا فيه الرأي الواحد طلقة بائنة لا رجعة فيها وقلنا فيه أن تونس تحتاجنا جميعا، تحتاج الى لمسة كل واحد فينا ومنا لتكتمل لوحة الثورة وتحضر كل فرائضها الغائبة علّنا نحقق شيئا يجعل اطفالنا يفخرون به ويذكروننا بكل خير. الحقيقة اكبر من ان يحتويها عقل واحد بل كل له جزء منها.