اللّغة العربيّة في يوم عيدها
صالح التيزاوي
كتب شاعر النّيل حافظ إبراهيم في مطلع القرن العشرين قصيدته الشّهيرة على لسان اللّغة العربيّة، عندما بدأت الدّعوة إلى إحلال العامّيّة محل الفصحى، واتّهمها أهلها متأثّربن بالغزاة بأنّها أصبحت عاجزة وقاصرة عن مواكبة التّطوّر، فقال على لسانها:
رموني بعقم في الشّباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي.
مخطئ من يظنّ أنّ اللّغة مجرّد وعاء للأفكار، فهي هويّة الأمم والشّعوب وسرّ بقائها وهي العنوان الدّالّ على ملامح المجتمع (أيّ مجتمع) وملامح شخصيته، إن كان أصيلا أو تابعا.. فكيف يبدو اليوم واقع اللّغة العربيّة؟
لم تعد مناهج التّعليم التي تدرّس الفصحى داخل أسوار المدارس والمعاهد والجامعات ولا التّعريب قادرين على حمايتها من هجمة اللّهجات العامّيّة واللّغات الأجنبيّة الآتية من كل صوب كجياد الرّهبة.. فضلا عن الإرتقاء بها وجعلها لغة العلم.
يحتاج الأمر إلى تدابير جديدة وابتكارات جديدة، فهي (اللّغة العربيّة) كغيرها من اللّغات الحيّة إنّما تحيى بكثرة استعمالها في الفنّ بجميع أجناسه وتتراجع بتراجع استخدامها.
هل كان النّاس مثلا، يعرفون تلك القصيدة الرّائعة للطّبيب الشّاعر إبراهيم ناجي لو لم تغنّيها أم كلثوم؟ وهل كانت قصيدة “حديث الرّوح” للشّاعر والفيلسوف الهندي محمّد إقبال تجد ذلك الرّواج الواسع في العالم العربي والإسلامي لو لم تغنّيها أم كلثوم؟ ومن ينسى ذلك الزّلزال الرّوحي الذي أحدثه ذلك الفنّان العظيم مصطفى العقّاد رحمه اللّه في فلم الرّسالة، لقد غصّت دور السّينما بالمتفرّجبن أعوام عرضه وكأنّ المسلمين يكتشفون الإسلام للمرّة الأولى..
ومن نكد الدّهر أنّ مصطفى العقّاد الذي أنتج فلم الرّسالة لتعريف المسلمين بدينهم وإزالة الشّبهات التي أثارها المستشرقون والمستغربون حوله، كان أوّل ضحايا الإرهاب بعد غزو العراق، حيث رحل عن هذه الدّنيا في تفجير إرهابي بالأردن وهو يستعد لإنجاز عمل ضخم عن الإسلام.
ليس المشكل اليوم في استخدام العامّية إلى جانب الفصحى، فاستعمالها قديم، ولكنّ المشكل في محاولات جادّة لإحلالها محل الفصحى في المدارس والمعاهد والجامعات والإعلام والفنون من رواية وأفلام ومسلسلات “أولاد مفيدة” في تونس و”اللّمبي” في مصر و”باب الحارة” في سوريا وفوازير “نيلّي” و”سربهان”، تبثّ في الشّهر الفضيل على موائد الإفطار بلهجة ركيكة..
ومع هذا الغزو الفظيع من اللّهجة العامّيّة للفصحى في معاقلها، يتواصل مسلسل الإنحدار والعبث بهويّة الشّعوب العربيّة كما يراد ويدبّر لنا في السّرّ والعلن.. فنحن أمّة أصبحت منصوبة في مقام المفعول به ومجرورة في مقام المضاف إليه..