إنكار الدستورية على الكتلة الدستورية
المولدي عزديني
(أبو ميارى)
1. ديباجة:
- هذه محاولة منهجية تجاهد في سبيل فهم عقلي لأمر من أمور تونس السياسية. وليست فرية مذهبية قوامها الأيديولوجيا المتعصِّبة.
- لا خير في نظر لا يعقبه عمل. وكل تطلُّع إلى مفعول نوعي يقتضي فاعلا داركا لذاته وفعله إدراكا نوعيا لا كميًّا ومن داخل مساره مهما كان مركَّبا.
2. مقدِّمات:
• مقدِّمة أولى: ثمة هشاشة في وضعية تونس اليوم لست بغافل عنها. غير أنَّ تونس دخلت مرحلة تحوُّل نوعي (وليس كميًّا) صبيحة يوم السبت 18 ديسمبر 2010. ومهما كانت نقيصتها، فلم تُجْرَ كل الانتخابات اللاحقة لهذا التاريخ من داخل منظومة الحكم التي كان يترأَّسها الرئيس ابن علي. واستنادا إلى معطيات العلوم المقارنة في التاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا السياسيين، فإنَّ سقوط رأس النظام في المجتمعات التابعة والمسمَّاة جزافا ثالثية، هذا السقوط كاف لوحده للحديث عن تحوُّل نوعي وليس كميًّا. وتعليل هذا أن الرئيس في مثل هذه الدُّول يستحوذ على: رئاسة الدولة والجمهورية والحزب الحاكم لوحده والمؤسَّستَيْن العسكرية والأمنية وهيأة القضاء الأعلى. وعليه، فمقولات التحولات الكمية والنوعية في مثل هذه المجتمعات تقتضي منَّا مراجعة متعقِّلة لها. فالخطأ لا يأتي عادة من المقولة أو النص أو المنهج وإنَّما ممَّن يتعسَّف عليهم في إسقاط ميكانيكي على واقع متغير وحتى نشاز أحيانا. وفي إطار التفكير الفلسفي السياسي، وتحديدا فيما يتعلَّق بالمعالجة المقارنة لألحِّ الحاجيات السياسية التاريخية للشعوب الكادحة نسمِّي تلك المراجعة: تبيئة أي تنزيل النظري في سياق عملي متوائم وإياه. فلكل مقام مقال. وننكر على التطبيق الآلي لمقولات العقل البشري ومناهجه التفسيرية والتأويلية كل مواصفات العلمية. وهذا شرط قَوَّام في الأبستمولوجيا النقدية. أما الجاثم المرتاح لسردية ما، فعليه ألاَّ يضاعف من إهانة العلوم بتوهُّم الميكانيكا التاريخية. فالتاريخ حي ديناميكي متصيِّر نحو أغراضه القصوى (تدانت أو تباعدت).
• مقدِّمة ثانية: رئيس الجمهورية هو المسؤول الأوَّل عن احترام الدستور وحمايته من كل شبهة وانتهاك. ويتعيَّن الدستور في جملة من المؤسسات العامة والخاصة. وتعيُّنه يكون بالقول منسجما مع الفعل قدر المستطاع. فضلا عن ترجمته في السلوكيات الإدارية والسياسية والنقابية والأخلاقية للذوات الطبيعية والمعنوية. ومن خالفه (وخاصة عن وعي وإرادة منه) فجزاؤه: إمَّا العقاب الطبيعي الذي يحدِّده القانون القضائي في حالات ما يسمَّى بالاستقرار الاجتماعي (وهو وضع مخروم في الغالب). –وإمَّا العقاب النوعي المحدَّد في إحدى الحالتيْن التاليتيْن:
- الأولى، القانون القضائي-الشعبي-الثوري إن كانت مؤسَّسات الدولة وعلى رأسها القضائية على عافية مؤكَّدة.
- والثانية، قانون سيادة الشعب على الشارع في الحراك الثوري (وهي حالة نادرة جدًّا).
• مقدِّمة ثالثة: وتبعا لما تقدَّم وما تأخَّر فلرئيس الدولة التونسي الحالي كل الصلاحيات. وبخلاف القائلين بمحدودية صلاحياته. أرى أن هذه الأخيرة تترجم الكثير من السطحيات والثرثرة الناتجة عن قصور في استخدام العقل على نحوٍ سليم. مثل انعدام المقدرة على القراءة التوليفية بين فصول الدستور أو الخشية من لائمة السقوف العنكبوتية الصفراء التي وضعها نوع من الاعلام الاستخباراتي للمتحاورين والضيوف والمدعوين إلى مسرح العمليات اليومية ضدَّ البلد. وتعليل هذا أنَّ الرئيس قيس سعيد:
- أوَّلا، متضلِّع نظريا من القانون الدستوري (ومنه المقارن).
- وثانيا، وظيفيًّا هو رئيس مجلس الأمن الوطني (القومي).
- وثالثا، اجرائيا هو من يحدِّد إقرار حالة الطوارئ وانهائها.
- ورابعا، اجتماعيا هو المسؤول الأول عن السلم الأهلية.
- وخامسا، هو المسؤول أخلاقيا عن ترجمة إرادة الناخبين في ممارسته لوظائفه السامية.
ومن المنطقي أن كل وظائف رئيس الدولة في النظام الجمهوري سامية بالضرورة. فهو صاحب السيادة والمؤتمن على الشعور بالمواطنة وتعيُّنها في الحياتَيْن الخاصة والعامة للمواطنين.
• مقدِّمة رابعة: مجلس نواب الشعب أعلى هيأة دستورية. وهو مصدر كل السلطات الأخرى. هذا وبالرغم من مآخذنا على معظم أعضائه الحاليين. وتعليل كلمة «معظم»: عدم تشكيل الحكومة بعدُ. فضلا عمَّا في المجلس من هرج يأتونه في النهار ومرج يصيبنا في الليل.
3. في لا دستورية المعتصمين والاعتصام:
• معطى أوَّل: يضبط النظام الداخلي للمجلس وتحديدا الفصل الثامن منه صيغة أداء اليمين. وهذا الأخير إجراء لا تكتمل من دونه صفة النائب في عضو مجلس النواب المنتخب. وكل اجراء باعتباره فعلا بشريا له هيأة ومادة. وبالرجوع إلى ما تمَّ يوم الجلسة الافتتاحية للمدة النيابية الحالية فإن كتلة الحزب الدستوري الحر برئاسة الأستاذة عبير موسي لم تلتزم بالفصل الثامن من النظام الداخلي لا من جهة الهيأة ولا من جهة المادة. وربَّما أُشير عليها وجماعتها تجنُّبا للوقوع في مأزق «فوات القطار» القانوني، أن يختاروا طريقة تضمن في آن صورة التديُّك وتجنب قارعة الطريق. فكانت طريقة لا مؤسساتية ولا أخلاقية ولا سياسية ولا تنظيمية. وحكم الممتنع هنا ليس كحكم الغائب أصلا. لقد تخيَّروا (واضطرارا في آن) طريقة انعدمت فيها كل آداب النفس البشرية. أعني ملمح الإنسان بما هو إنسان.
• معطى ثان: فأعضاء الكتلة الذين لم يؤدُّوا اليمين حسب موجباته الترتيبية لم تكتمل فيهم صفة النواب. علما أن اليمين كما ضبطه النظام الداخلي هو الالتزام المادي بتمثيل النائب للشعب: كل الشعب (من الجهة الدستورية). فضلا عمَّا يمثِّله من اعتراف أخلاقي بالائتمان على صوت الناخبين. فأين فقهاء القانون الدستوري والهيأة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين والمحكمة الإدارية؟ أين بقية النواب الآخرين يومئذٍ؟ لِمَ لم يثبِّتوا الفارق السياسي والأخلاقي في الحين؟ لِم قُدِّر علينا منذ 2011 بنواب لا يعملون بقاعدة: «طرِّق الحديد هو سخون»؟
• معطى ثالث: وعليه، فالممتنعون بإرادتهم عن أداء اليمين هم إلى حدِّ الآن منتحلون لصفة نائب. أيكون لزاما علينا أن نعود دوريا إلى تصحيح المفاهيم على قاعدة نسبة الصفة إلى الموصوف كما تمَّ في السنة الفارطة حين قال بعضهم عن موتى حُقَن مستشفيات تونسية: «رُضَّع»، فقال العارفون بالطب والبيولوجيا إنهم «خدَّج/خدائج»؟ وبالقياس فلا حل دستوري لجماعة الأستاذة عبير موسي إلاَّ ببسط وضعيتهم أمام لجنة من فقهاء القانون الدستوري. والميل تمام الميل (لضمان حق الإرادة الشعبية المنتخِبة) إلى استبدالهم بمن تلاهم في قائماتهم. هو ذا ما يرجِّحه المنطق العقلي والدستوري والحقوقي والقانوني والأخلاقي. وهو الحل الحافظ لماء الوجه للمؤسسة والدستور وأدبيات الفعليْن النيابي والسياسي.
• معطى رابع: قد يُعترض علينا بفرية من باب القصور أو المغالطة. ففي الحالات الاستثنائية: غياب النائب يوم الجلسة الافتتاحية وتحديدا في لحظة أداء اليمين يشرِّع له في أوَّل التحاق بالمجلس أداء اليمين فرديًّا ولا إشكال بالمرَّة ههنا. وحكم المتغيِّب قانونا ليس كحكم الممتنع قاصدا ما فعل من خرق للضوابط الدستورية.
4. نتيجة: لرئيس الدولة وعملا بما سلف بيانه من روح الدستور الحق المطلق في التدخُّل وبالصيغة التي تُبقي أثر الشعور بالتحوُّل السياسي النوعي في نفوس المواطنين المعنيين بالورطة التاريخية. وهو تدخُّل لاستئناف المجلس التشريعي لعمله الطبيعي وخارج الاكراهيْن المحلي والدولي. فأين هيبة الدولة ورئيسها أستاذ القانون الدستوري؟ أين رئيس الدولة والحال أن معظم المؤشرات تدلُّ على انسجام المؤسسات ذات الصلة بمعالجة المؤامرة مع سيادته؟