معتبرو الزمان، هذه حال تونس وتلك هي حال نخبها
أبو يعرب المرزوقي
كلما رأيت مناسبة تستحضر ما قاله الغزالي عن “معتبري الزمان” في البدايات الحرجة للتاريخ العظيم وما قاله ابن خلدون عن “معتبري الزمان” في النهايات الحرجة للتاريخ الحقير اقشعر بدني.
فما يجري في تونس وخاصة في المشاورات التي يقودها المكلف بتشكيل الحكومة واحدة من هذه المناسبات التي تشبه ما حصل بعيد نجاح السبسي من “إجهاض” أول تشكيل لحكومة الصيد.
وقد قلت فيها حينها ما كان ينبغي قوله في أول مشاركة في مركز للدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية بتونس.
إنه نفس المشهد.
فلكأننا أمام كونسولتو متطببين لا يعنيهم تشخيص المرض بل لقاء للثرثرة على إخراج تسوية تخفي عدم الاختصاص ولا يهمه علاج المرض الذي التقوا لتشخيصه وعلاجه.
وهو مشهد يبين من هم “معتبرو الزمان” لدى المكلَّف والمكلِّف.
فمن مر على قصر الضيافة من المفروض أن يكون من يعتبرونهم “زبدة” النخبة التونسية التي دعيت للتشخيص ووصف الداء للشروع في العلاج في المجالات التي تردت إلى حد الإفلاس الثقافي والاقتصادي والسياسي وحتى الأمني ناهيك عن الخلقي.
لكن اللقاءات صارت كاستنج لتوظيف “زعماء” في الحكومة أغلبهم يتسردكون لكأنهم اباطرة في بلد متسول في رعايته وفي حمايته.
وإذن فمن البين عند أي متابع أنها نخبة لم يرشحها بصفة “أهل الحل والعقد” إلا الفايس بوك أو المسرحيات التي يخرجها اعلام عبد الوهاب عبد الله وقانون البقايا في الانتخابات الأخيرة.
ولا عجب فتلك حال شعر تونس وأدبها وفكرها وسياستها وخاصة مافياتها التي تدير اللعبة علنا ولم تعد بحاجة لحجاب.
فهل رأيتم من يمثل رؤية في مقومات أي حكم رشيد:
- هل رأيتم اقتصاديا استشير ممن لهم ما يثبت الأهلية؟
- هل رأيتم اجتماعيا استشير ممن لهم ما يثبت الأهلية؟
- هل رأيتم مربيا استشير ممن لهم ما يثبت الأهلية؟
- هل رأيتم أمنيا استشير ممن لهم ما يثبت الأهلية؟
فإذا لم يحصل ذلك ففيم تتم الاستشارة إذن؟
والمعلوم أن إثبات الأهلية ليس أمرا تحكميا مهملا لا معايير له بل هو في العالم كله يعتمد معيارين لا بد من اجتماعهما:
- أولهما الممارسة في المجال بنتائج ناتئة.
- والثاني النظرية التي قادتها وأيدتها تلك النتائج وشهد له بها أهل الاختصاص.
وإلا فهو دعي من جنس من تعلم الحجامة في رؤوس اليتامى ككل الديكة اللذين تمتلئ بهم شاشات جل الإعلاميين فيها طبالون للمافيات التي توظفهم وتفرض عليهم ما يفعلون بسيادة تونس المادية والروحية.
وأخيرا كيف يمكن أن يكون المستشارون على صفات يقتضيها العلاج إذا كان المكلف بالاستشارة ليس له فكرة عن الاستراتيجيات السياسية التي تخرج الشعوب من الأزمات التي من جنس ما تعاني منه تونس (مثلا ما فعل محمد مهاتير رئيس حكومة ماليزيا لإخراجها من أزمتها ورفضه الخضوع لرهن البلد للبنك الدولي) ؟
سياسة تدبير الراس والتكتيك الاعمى لعدم الاستراتيجية يمكن أن يفيد مصير الأفراد لكنه من مهالك الأمم.
والأهم من ذلك كله هو عدم الوعي بمآل تونس بعد أن بدأت التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية تؤتي أكلها لتصبح محددة لكل سلوك النخب التونسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
فالتبعية الثقافية والهشاشة الاقتصادية والاستبداد المؤسس لعدم التوازن المناطقي في خدمة الفترينة التي تظهر حداثة قشرية لعل أبرز علاماتها سيطرة مافيات الفريب والتهريب بكل أصنافه والمسلح بالإرهاب عند اللزوم يجعل السياسة مسرح الأقزام لحاجة أولئك إلى واجهات تمثلهم ولا تخرج عن طوعهم.
وقد توالت على تونس محاولات تدعي الإنقاذ من هذا المآل المتوقع أو المتحقق.
لكن لا واحدة نجحت ربما لأنها كانت كلها عديمة الرؤية الاستراتيجية بسبب غياب التشخيص الشجاع أو الكفء وخاصة لعدم الاعداد الشعبي حتى وصلنا إلى آخرتها التي مثلت توطيد الغرق المتدرج في ما تمثله حالها الراهنة.
وهي الحال التي أخرجت أثقالها في ما يشبه نهاية جامعة لكل أمراض العهود التي مرت بها أعني:
1. محاولة الهادي نويرة التي تلت سعي قاعدة الحزب الحاكم للإصلاح وفشله فيها في بداية السبعينات فوطدت التبعية المطلقة بوهم الرفاهية قصيرة النظر التي أنهت كل إمكانية لتأسيس رأسمال اقتصادي تونسي حقيقي.
2. محاولة محمد مزالي التي جاءت متأخرة في السعي للمصالحة بين الاصالة والحداثة وتأسيس الديموقراطية وبداية التحرر الثقافي والاقتصادي شرطين للتحرر السياسي.
فلم يكن بالوسع تحقيق المشروع الذي حاربه الجميع من الداخل لعلل ثقافية (التعريب وحرب عملاء فرنسا عليه) والخارج لعلل اقتصادية (العلاقة جنوب جنوب وحرب حزب فرنسا وحزب القذافي عليه) ولما حدث بين الحزب الحاكم والاتحاد من تنافس على السلطة.
3. محاولة ابن علي وهي الأطول وأفصح ترجمان على ما تقدم عليه وما تأخر عنه.
أعني مآلات ما تقدم وعلل ما تأخر عن تعميم النظام المافياوي الذي آل إلى فقدان تونس كل استقلال إذا تجاوزنا شكليات الخداع السيادي المثقل لكاهل الجماعة دون أن يعبر عن إرادتها في شيء.
4. محاولة السبسي وهي المحاولة التي سيطرت على حقبة الثورة لأنها بدأت وختمت به.
وما حكم الترويكا إلا قوسين جرى ما بينهما ضمن ما خطط له قبلها وما أتمه بعدها.
فسنوات حكمها كانت صورة شكلية بلا روح مضمونية بسبب الفوضى الشارعية والنقابية والمؤامرات الخارجية التي لم تتوقف وانتهت بالدستور المشوه الذي جمع كل أدواء تونس وخاصة التبعية وقصر النظر.
5. المحاولة الحالية كما نراها في قرطاج وفي المجلس وفي تشكيل الحكومة هي التي تجعل البلاد تعيش على وقع حرب صريحة بين المافيات التي اخترقت كل أجهزة الدولة وخاصة إدارتها الخدماتية والسيادية.
بحيث إن كل كلام على تشكيل حكومة لم يعد له أدنى معنى.
وهذا هو الوصل مع إشارتي إلى الغزالي في فضائح الباطنية وابن خلدون في كلامه على علامة نهاية الدول.
أعود إلى الإشارتين لأشرح قصد الرجلين وبه أختم كلامي.
فالغزالي يسمي “معتبري الزمان” ما نعنيه نحن الآن بالقيادات الجماهيرية أو الشعبية لأنه يعرفها بكونها تتألف ممن تدور الجماهير معهم حيثما داروا.
وهذا الوصف طبقه على الفاروق والصديق.
وطبعا في وضعنا الراهن لن تجد من يمكن أن يقارن بهما. لكن تجد من لهم هذه الوظيفة:
إنهم رؤساء المافيات التي ورثت نظام ابن علي.
ولا أحد من السياسيين أو المفكرين أو الفنانين في تونس يمكن أن يكون له هذه القدرة على أن يدير الجماهير حيثما دار حتى لو انقطعت رقبته في الالتفات للتظاهر بأنه يقود الشعب.
ويكفي أن أكبر حزب حالي -النهضة- لم يحصل فيه إلا نصف الخمسين الذين يمثلونه على نجاح دون “إسعاف” الفضلات.
وحتى كذبة الـ72% ونصف للرئيس فهي مما لا يصدقه أحد.
فلا يمكن أن يكون الشعب التونسي وشبابه قد صار ملائكة يصوت “للنظافة” و”الطهرية” حتى لو تصورناهما متوفرتين في المترشح.
وهما غائبتان بما لا يمكن التشكيك فيه من الأدلة هي ماضيه عندما كان الناس يجاهدون الظلم والقهر وانجازه في عمله.
وما أعتقده جازم الاعتقاد هو أن الشعب التونسي في مجمله أشبه بالقروي في صورته الصادقة أي غير الخفية منه بسعيد في صورته الكاذبة أعني الظاهرة.
وحيثما قيل لي إن الخيرين هم الأغلبية في أي جماعة علمت أن هذا الكلام كاذب ومنافق.
فالأخيار قلة دائما وفي كل الشعوب.
واللحظات التي يكون فيها “معتبري الزمان” من الأخيار لحظات أندر من الكبريت الأحمر وهي في تاريخنا على الأقل لا تتجاوز ما وصفه الغزالي في فضائح الباطنية.
والدليل القاطع هو أن غالب النخب العربية الحالية وخاصة توابع الملالي منهم لا هم لهم إلى تشويههم.
وأختم بابن خلدون مكتفيا بإيراد نصه الذي هو أبلغ وصف “لمعتبري الزمان” في لحظة تونس الراهنة.
وهي من علامات نهاية العهد بحيث إننا أمام المجهول.
ولست أعبر عن تشاؤم لأن الإفلاس المادي بعد الخلقي لم يعد بيننا وبينه إلا شهور معدودات بسبب هذه الأخلاق التي عمت كل قوى تونس السياسية التابعة لسلاطين المافيات الفاقدة لأي زمام:
”فتجد كثيرا من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه ويتزلف إليه بوجوه خدمته.
ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه حتى يرسخ قدمه معهم وينظمه السلطان في جملته.
فيحصل بذلك حظ عظيم من السعادة وينتظم في عدد أهل الدولة.
(…) ويميل (صاحب السلطان) إلى المصطنعين الذي لا يعتدون بقديم ولا يذهبون إلى دالة أو ترفع إنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه.
فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وينصرف إليهم الوجوه والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلا بعدا من السلطان ومقتا وإيثارا لهؤلاء المصطنعين عليه إلى أن تنقرض الدولة.
وهذا أمر طبيعي في الدول ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب”
(المقدمة الباب 5 الفصل 6 : سعادة أهل الخضوع والتملق وكسبهم).