الفبركة والتضليل الذي مارسه الإعلام الموجّه

عبد اللّطيف درباله

إذا ما كانت إذاعة فبركت مسرحيّة كاملة لتبييض فتاة برامج تافهة ونجمة تلفزات هابطة.. فلكم أن تتخيّلوا حجم وهول الفبركة والتضليل الإعلامي الذي مارسه الإعلام الموجّه في تونس في أمور تتعلّق بالسّلطة والحكم والمال والنفوذ..!!

يوم أمس كتبت مقالا عن حادثة برنامج “نجوم” في إذاعة “موزاييك اف ام” ومحاولة تبييض الصحفي الهادي زعيّم لضيفته من الأخبار الرّائجة عنها.. وعن فتح باب الإستيديو لشخص منتحل صفة قريب ضحيّة حادثة القتل بالملهى اللّيلي لتبييض الضّيفة.. وافتضاح أمره.. واضطرار الإذاعة للإعتذار علنا والإعلان عن إيقاف البرنامج.. والإتّصال بالأمن لإيقاف الضّيف المتحيّل.. الذي أفادت الأخبار لاحقا أنّ القضاء أوقفه على ذمّة التحقيق..!!
اليوم قرّرت أن أشاهد مقطع تسجيل الفيديو لتلك المداخلة.. ولم يكن ما شاهدته وسمعته ببرنامج إذاعة “موزاييك” غريبا ولا جديدا على ما تعوّدنا عليه من الإعلام الموجّه المتلاعب بالحقائق والوقائع.. ولا على سخافة نجوم الورق التافهين الفقاعيّين الذين خلقهم سوء إستغلال تجّار الإعلام لحريّة إعلام ما بعد الثّورة..!!

طريقة محاورة الهادي زعيّم لضيفته التي تحوّلت من نكرة إلى نجمة لتستثمر ذلك في أشياء أخرى.. لا يمكن أن يشكّ طفل عمره 12 سنة فقط.. أنّه جاء بها خدمة لها.. بغرض تبييضها.. وتبرئة ساحتها ممّا يدور حولها وينسب إليها.. بل ولإظهارها كضحيّة تستحقّ الشفقة والعطف وتعاطف النّاس.. وحماية الدّولة..!!
أسئلة سخيفة موجّهة ومحضّرة ومفضوحة.. ونبرة صوت متناغمة مع الإجابات.. ومصادقة على كلّ التصريحات..!!
ثمّ فجأة يعلن المذيع بأنّ فريق التحرير أعلمه بأنّ أحد أقرباء الضحّية المقتول يريد أن يتدخّل في المباشر بالإستيديو ليعطي شهادة مهمّة حول الحادثة.. وزعم زعيّم بأنّه لا يعرفه.. ولم يكن ذلك مبرمجا مسبقا.. ولم يقع التحضير له..!!

لكنّ قدرات التمثيل وإستبلاه المستمعين.. خانت أيضا الهادي زعيّم.. فبمجرّد أن صرّح بأنّ الشاهد سيدخل الإستيديو.. سمعنا فجأة صوت فتح الباب المفترض في الإستيديو لدخول الضّيف المفاجئ في “قزقزة” غريبة وفاضحة.. وكأنّ الأمر يتعلّق بفتح باب قديم لدار قديمة ومهجورة منذ سنوات.. والحال أنّ أبواب إستيديوهات الإذاعة لا تكاد تصدر صوتا عند فتحها وغلقها للمحافظة على الهدوء وعدم التشويش..!!
ثمّ وفي الوقت الذي كان الهادي زعيّم ينظر بعينيه وكأنّ الضيف بصدد الدّخول توّا.. تتحول الكاميرا فورا إلى مكان الضيف في نفس اللّحظة فنجده جالسا بأريحيّة وقد انطلق في الكلام مباشرة.. ممّا يوحي بأنّ جلوسة سبق الإعلان عن دخوله ببعض الوقت..!!

لحبك التمثيليّة أكثر.. والفوز بالتعاطف.. تظاهرت ضيفة البرنامج بمجرّد دخول الشاهد المفاجئ المفترض أنّه أحد أفراد عائلة الضحيّة.. بأنّها تعرّضت لأزمة صحيّة طارئة وضيقا في التنّفس.. وأخذت “تمروح” بيدها وكأنّها شعرت بالحرارة أو بنقص الهواء.. ممّا جعل المذيع الهادي زعيّم “الحنيّن” يطلب من فريق البرنامج بعض الماء.. ويطلب حتّى فتح النّافذة..!!
أي نعم.. فالإذاعات تخسر أموالا في تهيئة وبناء الإستيديوهات.. وفي عزل الجدران وتغليفها بإحكام.. من أجل كتم الأصوات وضمان الهدوء ومنع التشويش على جودة الصوت داخل الإستيديو.. ولكنّ المذيع المحترف يطلب فتح النافذة لتهوئة وإنعاش ضيفته داخل الإستيديو..!!
وبعدها تمّ نجدة الضيفة المبجّلة.. أو الضيفة “المُبيَّضَة” ببعض العطر.. لتفيق من دوختها..!!

طبعا دخل الشاهد المزعوم مباشرة في صلب المهمّة المنتدب من أجلها.. وبدأ بمجرّد حديثه يبيّض ضيفة البرنامج “المُبيَّضة”..!!
وفي حين قال الهادي زعيّم أنّ الشاهد المفاجئ المتطوّع لا يعرف ضيفته.. أعلن الشاهد المزعوم بأنّه سبق لها مقابلة الضّيفة “المُبيَّضة” بقناة التاسعة..!!
ورغم ذلك كرّر زعيّم لاحقا في تأكيد على صدقيّة الشهادة وتلقائيّتها بأنّ الشاهد يلتقي ضيفته لأوّل مرّة الآن.. وكأنّه نسي ما قيل له قبل دقائق.. في محاولة ساذجة لدمغجة المستمعين.. لولا أنّ الشاهد المزعوم لم يستطع طبعا أن يؤكّد ذلك ويكذّب نفسه.. فكرّر على أسماعه أنّه سبق له إلتقائها مرّة فقط بالقناة التلفزيّة المذكورة..!!

لن نكرّر ما قلناه بمقال البارحة حول مدى إمكانيّة أن نصدّق.. أنّ فريق إعداد في إذاعة تقول أنّها الأولى في تونس.. وصحفي محترف قديم في المهنة.. لا يتثبّتون من ماهيّة ضيف ولا من صفته ولا من صحّة إسمه ولا يطّلعون على بطاقة تعريفه.. ولا ينفّذون أيّ من ضوابط المهنة في تمحيص الخبر والتأكّد من الأشخاص..
لكنّنا في المقابل نستغرب مدى الإستهانة بمدارك النّاس.. والظنّ أنّ مسرحيّة سمجة ومفبركة لتبييض فتاة مثيرة للإستفزاز.. يمكن أن تنطلي فعلا على الجمهور.. ويمكن أن لا تلاقي أيّ إعتراض من قبل عائلة الضحيّة..!!!

مرّة أخرى نؤكّد بأنّ أكثر ما يعنينا في حادثة إذاعة “موزاييك” هو أنّها مثال واقعي وحيّ ومفضوح على طرق وأساليب الفبركة والتبييض والتضليل والتوجيه الإعلامي خدمة لأشخاص ومصالح.. رغم أنّ الأمر يتعلّق بمجرّد فتاة برامج تافهة ونجمة تلفزات هابطة..!!
ولكم أن تتخيّلوا حجم وهول ما حدث من الإعلام الموجّه والمتلاعب بتونس طوال سنوات عندما تعلّق الأمر بالسّلطة وبالحكم وبشخصيّات وأحزاب سياسيّة.. وبلوبيّات متنفّذة.. وكان الموضوع يدور حول مصالح ومنافع سياسيّة وماليّة كبرى ومهمّة..؟؟ !!!

ومرّة أخرى.. وأخرى.. مسكينة تونس..!!