مقالات

تونس: مستقبل الديمقراطية بين “ديستوبيا” الأحزاب المتراجعة و”يوتوبيا” الرئيس الغامض

عبد الرزاق الحاج مسعود

مقدّمة:

تشهد تونس منذ انتخابات 6 أكتوبر البرلمانية و17 أكتوبر الرئاسية تحوّلات سياسية دراماتيكية هي بصدد تغيير مفردات الفعل والتفكير السياسيّين، والأهمّ أنها تلقي بالبلاد في وضع تاريخي لا يتفق في توصيفه اثنان، بين من يراه مصعدا تاريخيا استثنائيا تلعب فيه تونس الصغيرة حجما دورا (عالميّا) رائدا في تجديد فكرة الديمقراطية من داخلها بعد أن أفرغتها الرأسمالية العالمية من محتواها الشعبي، ويمثل هذا الرأي المذهولون من صعود “قيس سعيّد” إلى الرئاسة ببيعة شعبية جامعة وعابرة للأحزاب، وبين من يرى في الوضع التونسي نموذجا دراسيّا مثاليّا لاضمحلال الأفكار التقليدية الكبرى التي شكّلت بنى السياسة والتفكير في تونس منذ عقود طويلة، دون أن تترك مكانها لبديل واضح.

1. تحوّلات “قطائعية” كثيفة منذ 2011:

سنة 2011 ولد من رحم أحداث الثورة وعشريّتي استبداد مشهد “مفاجئ” ما يزال يتفاعل حتى الآن: الفئات التي تظاهرت في الجهات الداخلية أوّلا، وهي فئات الشباب المعطّل والتائه واليائس من دولة الفساد الذي بدأ عائليا ثم تعمّم ليصير نمط حكم، ثمّ فئة الموظّفين المنتظمين نقابيا وبالأساس قطاع التعليم الثانوي في المدن، وهو الأمر الذي ضمن انتشار الثورة في كامل البلاد، هذه الفئات لم تجد نفسها ممثّلة في المشهد السياسي الأوّل بعد الثورة. فرغم قانون الانتخاب المعدّ لمنع التغوّل باسم الديمقراطية، اكتسح الإسلاميون العائدون من “فراغ تاريخي” بعد عقدين من التجميد الفعلي في السجون والمنافي المشهد السياسي اكتساحا كاملا. كانت تركة المواجهة بين الإسلاميين وبن علي ثقيلة وعميقة ورهيبة بما جعل من قفزها إلى قلب عملية سياسية بعد ثورة مربكا للمسار السياسي الجديد كلّه. سنختصر هذه المرحلة بالقول أن انفجار المواجهة بين “الحكم الجديد” الطارئ بواجهته “الإسلامية” على المشهد من جهة، وما سمّي بالدولة العميقة مدعومة من اتحاد الشغل الذي أطّرت هياكله الجهوية أحداث الثورة وكلّ المجتمع المدني الذي قاوم الاستبداد من جهة ثانية، أحدث انقساما أفقيا عميقا داخل المجتمع تسلّلت من خلاله أجندات إقليمية ودولية وغذّته ووظّفته بشكل دمويّ حينا وبأشكال أعقد أحيانا أخرى وسط انسحاب وذهول الفئات التي كانت مادّة الثورة وطاقتها المحرّكة.

هذه المواجهة تمخّضت جولتها الأولى العنيفة ( ما عُرف بمرحلة الانفلات الأمني والاجتماعي الشامل) عن تعليق ظرفي ل”الديمقراطية الانتخابية” نهاية سنة 2013 بخروج حركة النهضة من الحكم وتسليمه لحكومة “محايدة” تحت إشراف “محايد” للمنظمات الوطنية الأربعة وبرعاية السفارات الأجنبية “المحايدة” أيضا. ثمّ جاءت الجولة الثانية من المواجهة بين “المعسكرين” في انتخابات 2014. كانت عملية انتخابية ل”إدارة الحرب الوشيكة”، تَواجهَ فيها مشروعان نقيضان، واحد يمثّل الدولة/ الإدارة/ التاريخ الواقعي الرسمي المشترك بكلّ انحرافاته وشبكات مصالحه النافذة والخائفة، وانخرط فيه اليسار والنقابيون مع خصومهم الموضوعيين في التقاء تكتيكي “حربي”، ومشروع آخر مقابل يمثّل الدولة المثال/ الدولة الخيّرة/ البديل “الهلامي” الذي تتمثّله أجزاء كبيرة من الشعب كوعد أخلاقي وربما ديني في العدالة والكرامة والشغل. وعد هلامي ينطق باسمه كثيرون ويستبطنونه على أنه تطهير وشيك ويسير لكل مفاصل الدولة والمجتمع من الفساد، وتحقيق نهائي للاستقلال الوطني الكامل عن الاستعمار الفرنسي الذي يستمرّ في نهب ثروات البلاد وخرق سيادتها الوطنية.

وبقدر ما كان الخطاب الانتخابي خلال مواجهة 2014 عنيفا وحربيا وقائما على التنافي المطلق بين المعسكرين، بقدر ما كان التقاء الخصمين النقيضين مباشرة بعد الانتخابات (وبترتيب أجنبي ما يزال غامضا) في مشروع حكم مشترك مزلزلا لكل ما استقرّ من مفردات سياسية سجالية تتمحور جميعها حول التناقض الجذري بين مشروعين: واحد “حداثي مدني” والآخر “ديني ماضوي”. تناقض لا يستحضر مفردات الانتفاض الاجتماعي الشعبي لسنة 2011 والتي كانت محرّكاته اجتماعية معيشية خالصة.

لذلك حصلت تدريجيا قطيعة كلية بين الطبقة السياسية بكلّ أطيافها وفئات كثيرة من فقراء المدن والدواخل والشباب الذي واجه أجهزة القمع سنة 2011 ثمّ شباب ما بعد 2011 الذين لا يفهمون لغة السياسيين وانقساماتهم ويرونهم جميعا بعين واحدة: كلّهم من دون تمييز طالبو مناصب وامتيازات ومصالح، والحلّ هو أن يرحلوا جميعا.

وبعد أن قاطع الشباب العملية السياسية برمّتها انتفض جزء منه في انتخابات الرئاسة الأخيرة ( سبتمبر/ أكتوبر 2019) من داخل الديمقراطية التمثيلية ليدفع برئيس من خارج الأحزاب والسياسة في قلب المشهد السياسي فيما يشبه الانتخاب العشوائي ( لعبة نرد) احتجاجا على عجز الديمقراطية الحزبية عن فتح طريق المستقبل أمامه ( طبعا ليس هذا تفسيرا كاملا لصعود قيس سعيد الذي يستدعي تفسيره عوامل أخرى غير هذا). لكنّ “القطيعة” التي حدث في الرئاسيات لم يتمّ استكمالها في التشريعية، بحيث تشكّل مشهد جديد يحتاج قراءة خاصّة.

2. الانتخابات الأخيرة بين “ديستوبيا” التشريعية و”يوتوبيا” الرئاسية:

شارك في الانتخابات التشريعية أقلّ من ثلاثة ملايين ناخب من مجموع مسجلين يتجاوز السبعة ملايين. ومثّلت النتائج قطيعة كليّة مع مشهد 2014 الذي قاد فيه الباجي قائد السبسي الرئيس الراحل الجبهة المقابلة للإسلاميين باسم حزبه “نداء تونس”. الحزب الذي مثّل تكوينه حدثا “كلّيا” بعد الفراغ الحزبي الذي أحدثته الثورة وتعريتها للإدارة العميقة التي احتاجت ظهيرا سياسيا عاجلا بعد حلّ التجمّع فوجدته في “نداء” أطلقه قائد السبسي الذي يمتدّ تاريخه الشخصي والسياسي إلى بدايات دولة الاستقلال بما يجعله سابقا في وجوده السياسي لمرحلة بن علي وعابرا لها وباقيا بعدها.

سيسجّل المؤرخون أن الدور الذي لعبه نداء تونس ومؤسسه تحديدا في توفير “مادة اشتغال” الديمقراطية في خطوتها الأولى كان دورا مفصليّا. صنع الباجي (ونخب فكرية وسياسية مهمة معه وإن بخلفيات متناقضة طبعا) حزبا جامعا لأطياف واسعة من القديم التائه المرتبك (بحكمه ومعارضته) بعد زلزال سياسي مفاجئ صعد بموجبه جسم إسلامي غامض من “لامكان” إلى مركز قيادة بلاد. المنجز الأكبر لنداء تونس لصالح الديمقراطية المهدّدة من كل الجهات حينها هو إدماجه بعملية واحدة لطرفين اثنين -لا يؤمنان فعليّا بالديمقراطية- في مسار انتخابي أمّن لهما عبورا سلميّا لأوّل امتحان ديمقراطي في تاريخ البلاد الحديث. هذان الطرفان هما أبناء البورقيبية في نسختيها، وأبناء التيار الإسلامي بأغلب أطيافه (النهضة الملبرلة جزئيا ومكوّناتها وأحزمتها السلفية). انتخابات 2014 قلّصت حجم الإسلاميين الانتخابي ( والذي تضخّم مرضيّا سنة 2011 بما جعله عبئا عليهم هم أنفسهم وشجّعهم على الاستبسال في الدفاع على التنصيص على علوية الشريعة في الدستور ولو أدى ذلك إلى تأجيل الديمقراطية إلى ما لا نهاية…) بما جعله قابلا للإدماج التدريجي في مشهد سياسي وطني وعربي ودولي رافض للإسلاميين. ذاك الإدماج استدعى مساومات وصفقات بين الطرفين على امتداد خمس سنوات كاملة تمخّضت عن تحوّلات جوهرية. نهاية نداء تونس كلّيا تقريبا، وتقلّص آخر في حجم حركة النهضة، ليكون المشهد البرلماني الحالي جديدا وغريبا:

لا يوجد في تونس اليوم حزب كبير يصلح عنوانا للمرحلة. النهضة حصلت على 52 مقعدا من مجموع 217، ولولا أنّ الانتخابات التشريعية تمّت في مناخ التخويف من صعود وشيك وداهم لحزب قلب تونس الذي حلّ رئيسه ثانيا في الدور الأوّل من الرئاسيات، لم تكن النهضة المنقسمة داخليّا والمتراجعة شعبيّا لتحصل على تلك النسبة من المقاعد.

حزب “قلب تونس” حلّ ثانيا بـ 38 مقعدا رغم أنه حزب “طريف” بمعنى ما وليس مؤهّلا لطبع المشهد السياسي الجديد بطابع ما، حتى أنّ الكثيرين يصرّون على عدم اعتباره “حالة سياسية” بقدر ما هو طفرة من طفرات “الفساد المالي والإعلامي” باعتبار أن صاحبه دخل السياسة معتمدا نشاط جمعيته/ حزبه “الخيري” لشراء أصوات الفقراء، وقناته التلفزية المتخصصة في الدعاية السياسية المباشرة لشخصه.

أمّا بقية المشهد فملخّصه غياب مفاجئ للجبهة الشعبية اليسارية عن البرلمان الجديد بعد أن داهمتها أمراض اليسار القديمة، وبعد أن لعبت دورا نشيطا في تشكيل المشهد السياسي والفكري خلال تسع سنوات من الانتقال، وصعود قوّتين جديدتين نقيضتين: الحزب الحرّ الدستوري ممثّلا وفيّا لمرحلة بن علي، ونقيضه الوجودي “ائتلاف الكرامة” الذي يتمحور خطابه على شعارين مركزيين مكناه من اكتساح (يعتبر اكتساحا لأنه ائتلاف انتخابي تشكل على عجل مباشرة قبل الانتخابات الأخيرة) مفاجئ للمشهد السياسي، هما مهاجمة الفساد داخل قلاعه التي يتحصّن بها ولو كانت اتحاد الشغل “وما أدراك”، واستكمال تحرير ثرواتنا من فرنسا ومطالبتها بالاعتذار عن استعمارها لتونس، والعنصر الثالث هو صعود حركة الشعب القومية وحزب التيار الديمقراطي كممثّلين مفترضين لخيار الديمقراطية الاجتماعية.

مشهد أستطيع توصيفه بـ “الديستوبيا” الحزبية لأن عناوينه ليست عناوين بدائل بل عناوين المأزق الذي وصلت إليه تجربة انتقال ديمقراطي لم تستطع حتى الآن أن تنتج أدوات عمل سياسي من جنس اللحظة. فالثورة لحظة متقدّمة في الوعي والفعل والمفروض أن لا تجترّ الماضي مطوّلا كما يحدث مع الأحزاب التونسية الحالية. أغلب الانقسامات الحزبية الحالية قائمة على اختلاف في قراءة الماضي لا حول وسائل الفعل السريع والمفيد في الحاضر. لذلك هي “ديستوبيا” جاءت الرئاسيات وأوقدت شرارة يتيمة لتشير إلى خطر استمرارها. فكانت رئاسيات بزخم كبير تجاوز كلّ التوقّعات واستعصى على كلّ القراءات التي راوحت بين اعتبارها مؤامرة استخباراتية أجنبية خالصة، أو طفرة وعي شعبي استثنائي ما بعد حداثي. وكلا القراءتين طبعا مغرق في الاختزال.

كانت الرئاسيات في دورها الثاني حدثا “مسرحيّا” ( فوز سعيّد الغامض بأكثر من 70 في المائة من الأصوات في ظلّ ضمور حزبي عامّ) لا يمكن تفسيره إلا على أنه “قطيعة” مع المشهد البرلماني، واعترافا من كلّ الأحزاب التي صعدت للبرلمان ( بما فيها قلب تونس والدستوري اللذين لم يصوّتا لقيس سعيّد) أن “المثال” السياسي المطلوب (اليوتوبيا) يوجد خارجها.

3. الديستوبيا واليوتوبيا.. من سيقود من؟ :

جلسة افتتاح البرلمان كشفت عن مرونة محتملة في الهويات السياسية التي كانت حتى الساعة الأخيرة قبل دخول البرلمان متناقضة، لكنها مرونة حذرة وحساسة لأنها تمّت في اتجاه إدماج الكيان الحزبي “الطريف” والمختلف حول انتمائه إلى السياسة. لكنها مع ذلك تؤشّر على انفتاح المشهد الحزبي على حراك وشيك في اتجاهات متشابكة ومتناقضة؟

هل هذا علامة حياة وحيوية من شأنها أن تدفع بالمشهد الحزبي العاجز حتى الآن عن الإنجاز التنموي الاجتماعي نحو التحرّر نهائيا من مكبّلاته الإيديولوجية المستعصية عساه ينسجم مع “لاحزبية” الرئيس الجديد التي تكاد تجعله “رئيس كلّ الشعب”، الشعب كما لم يع نفسه من قبل؟ أم أنه تكريس فجّ ل”ديستوبيا” حزبية مفارقة للمثال السياسي الأخلاقي الذي يجسّده الرئيس المشرف من علياء “يوتوبياه” على الجميع؟

ليس الأمر واضحا حتى الآن، لأنّ مؤشرات التصلّب الحزبي لا تزال صامدة. فالأحزاب التي تعتبر منسجمة مع مزاج الرئاسة وصوّتت بحماس لسعيّد ( أساسا النهضة والتيار والشعب والكرامة وبدرجة أقلّ تحيا تونس) تدرك أن مرونة زائدة تصل إلى حدّ تحمّل جماعي لأعباء الحكم في ظرف دقيق قد تميّع هويّتها الحزبية ( بكلّ ما تحمله من رهانات شخصية معقّدة) نهائيا في حالة نجاح محتمل، وفي حالة فشل أرجح. لذلك تتلكّأ في حسم خيار المشاركة في حكومة لم يعط رئيسها المعيّن حديثا انطباعا كافيا حول هويتها نظرا لغموض هويته هو أيضا وخاصة غموض علاقته بالنهضة التي تتردّد في تسليم “فوزها” الانتخابي الصغير إلى حكومة جماعية. تردّد سيعمّق أزمة الأحزاب ويعمّق قطيعتها مع “ظاهرة قيس سعيّد” المنقذ “المتربّص” بالديمقراطية الحزبية.

خاتمة:

لا يزال الرأي العامّ ينتظر بثقة تدخّل الرئيس “المخلّص” في الشأن السياسي اليومي ليرى أثر رهانه “الأخير” على الرئيس “المثال”. ولا يهمّه كثيرا ما يجري من تفاصيل مفاوضات تشكيل الحكومة بين أحزاب صارت صورتها غائمة في عيونه ولا تؤشّر على أي فكرة إيجابية.

الغامض في عيون الجميع اليوم هو كيف سيتفاعل الرئيس صاحب المشروع/ الحلم الأخلاقي الذي مكّنه من دخول قرطاج مع يوميات الحياة الحزبية الصغيرة؟ وهل سيقبل برهن “مشروعه” (على هلاميّته) لدى أحزاب لم تثبت حتى الآن قدرتها على التقاط مفاتيح الفعل والإنجاز؟

وهل يملك مدخلا ما ليساعد على منع انفلات شعبي ممكن في صورة عجز الطبقة السياسية عن إدارة اللحظة الحرجة؟

هل ستقنع لغة الآجال الدستورية والقانونية الضابطة لمفاوضات تشكيل الحكومة، والتي يبدو أنها ستطول وستحكمها عقلية المناورة الحزبية، الشباب والفئات والجهات المتطلّعة لحلول عاجلة للفقر والبطالة والغلاء والجريمة وانسداد الآفاق، هل ستقنعهم بمزيد من الصبر والانتظار؟

المنجز الديمقراطي التونسي بأحزابه ومؤسساته غير المكتملة والهشة وفكرته الديمقراطية الطارئة على بنية التفكير والثقافة السياسية المحلية، كلّ ذلك أمام امتحان تاريخي مصيري الآن.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock