تدوينات تونسية

مسلسل وادي الدماء

نور الدين الغيلوفي

غزّة تصبّ لعناتها على ما بقي من عرب الخراب الأخير…

دُوَلٌ وممالك وعروش وجيوش وكروش..
ومنجَزات ومعجزات…
زعماء من عند السماء نزلوا فخلدوا خلودَها.. وامتلأت الحياة من بعدهم يشغلها التسبيح بأسمائهم…
نُخَبٌ عظيمة أدمنت مديح الخالدين والتنقيب في علامات لا بشريتهم المعجزة…
شعوب ترقص وأخرى ترفض…

غزّة وحدها.. مثل حَمَل متروك شرد عن الأغنام وغادرته القطعان.. يشقّ الأودية والفيافي منفردا تحيط به الذئاب وتتربّص به بنات آوى وتحاصره الثعالب وتنتظره الكلاب.. تسوق إليه أوباش القطعان المحيطة تحاصره بها…

جميع تلك القطعان ورعاتها المتخَمون النائمون لا يساوون لحظة فزع تمرّ بها فتاة غزّاوية مجرّدة إلّا من ذهولها من الهول تقف وحيدة على أنقاض بين رُدم تحتها أهلها وما كان يلفّ جسدها الهشّ من غطاء…

غزّة تشهد حلقة أخرى من مسلسل وادي الدماء.. ونحن نستمتع بالفرجة على الألوان.. ونفرّج عن أنفسنا بدمعة شفقة قد تذرفها عين ساذجة في محيط ذئاب لا تعرف البكاء…

نحن أمّة ألغاها التاريخ من حساباته.. وصار أولى به فناؤها…
لا نريد أن نفهم أنّ عراكاتنا لا تزيل أوجاعنا بل تزيد منها.. ولا نحبّ أن نسمع أنّ صراعات بينِنا بلا معنى لأنّها صراعات تافهة لا نفع منها.. هي صراعات ما قبل المجتمع.. وقبل الدولة ودون السياسة.. بل هي صراعات ما دون الإنسان.. صراعات هجينة مجانبة للعقل وللأخلاق…

ألا نخجل من أنفسنا؟
جماجم أهل غزّة تهشّمها قذائف الاحتلال الصهيونيّ ونحن نتنازع صفة العدوّ فيه، أهو عدوّك أم عدوّي.. وبدل أن أكون أخًا لك أستعين بك على العدوّ أباعد بينك وبينه وأستأثر بك لنفسي ضدّه.. بدل أن أتّخذ منك ذراعي التي أرجمه بها وظهري الذي أستند إليه.. بدل ذلك أهاجمك أنفي عنك عداوته لأحتكرها لنفسي.. بل أتّهمك بأنّك صنيعة له وأفرد نفسي بصفة الممانعة أتربّع في مرتعها اللغويّ لأنجز مقاومة صوتية للمحتلّ لا أحتاج فيها إلى أكثر من حنجرتي ما لم يصبها عطب.. وما أكثر ما يصيبها العطب…

حين أشاهد صور أهل غزّة تسحقهم راجمات المحتلّ الغاصب وأنظر في أحوال أشباه البشر في بلاد العرب قاطبة أدرك جريمة دولتنا الوطنية التي طبّعت مع الهزيمة وعاشت جنب العدو تأكل من شعار عداوته ولا تحصي ما تأكل.. كلّما هجم العدوّ الصهيونيّ على أهلنا في فلسطين لتجريب آخر أسلحته في أبدانهم هرعنا إلى اجتماعاتنا العربية الفصحى لنتنافس في الصراخ.. ومن صراخنا تتغذّى دولة الاحتلال وتتوسّع فينا حتّى تسكن بعض القلوب منّا.. وفي الخليج آيات على اختراق الصهاينة لوجدان سكّان جزيرة العرب الباقية.. اخترقوا كل شيء حتّى تولّوا عهود الممالك والعروش…

لا عروبتنا نفعتنا ولا إسلامُنا دافع عنّا…
عاشت الممالك وضاعت فلسطين..
عمّرت الدول وتمزّقت الأرض وتشرّد شعبها بين مخيّمات اللجوء…
عاش الزعماء الخالدون نسكر بذِكرهم وقضمت دولة الاحتلال من خواصرنا متسلّحة بصراخهم ومن سُكرنا بتخليد ذكراهم…
ما أنفقته أنظمة العرب في صراعاتها ومؤتمراتها كان يمكن أن يقدّم شيئا في طريق تحرير فلسطين وحقن دماء أبنائها.. ولكنّ تحريرها يعني زوالهم وما يحكمون وما يملكون…

وكل الذي فعلناه أنّنا تلهّينا بالتشاتم…
الأنظمة شتمت بعضها بعضا حتّى شبعت من التشاتم وانتهت إلى “التحاضن”.. ومن ذلك تعدّت إلى شتم شعوبها.. صارت شعوب العرب المقهورة إرهابية مندسّة متآمرة موظّفة في أجندات الأعداء.. مأجورة.. وعقد الزعيم قرانه الكاثوليكيّ على الدولة حتى صارت مضافا إليه.. واكتفينا من الممانعة بالعواء.. اكتفى القائد المعلّم بقلب العبارة فصار ما لا يرضيه من “عربيّ” “عبريّا”.. وأغلق دفتره ونام.. وبقي التلاميذ النجباء يحرسونه.. يتهارشون بالسباب…

تصدّع المبنى الذي نسكنه، نحن العرب، وتسرّبت مياه العدوّ الملوّثة إلينا فما عدنا قادرين على ميز الحابل من النابل…

ويستمرّ سفح ما تبقّى للعرب من دم في غزّة…
ويستمرّ فسخ العرب من سجلّات الحضور في التاريخ..
بما كسبت أيديهم..
تبّت أيديهم…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock