تدوينات تونسية

خالتي ساسيّة النوّاحة

الطيب الجوادي

• الطيب ولدي ما نسامحكش كان نموت وما تجيبش ليا خالتك ساسية النوّاحة تبكي عليّ

هكذا كانت يمّة توصيني باستمرار ولكنّ خالتي ساسيّة سبقتها إلى الرّفيق الأعلى قبل عشر سنوات، وعندما وصل خبر وفاتها إلى يمّة ضربت كفّا بكفّ وتساءلت من بين دموعها “اشكون باش يبرّد على ڤلوبنا توْ!”.
كانت خالتي ساسية رحمها الله، نائحة محترفة ارتقت بالتعديد وبكاء الموتى ورثائهم إلى مرتبة الفنّ، فقد كانت مبدعة في مراثيها وأسلوب نواحها وبكائها، وكانت لها قريحة عجيبة في ابتكار جمل الرثاء مبنى ومعنى فقد كانت جملها مُوقّعة مُقفاة وكانت تنوح فتبكي الناس والشجر والحجر وتستفرغ الدموع من المآقي، فقد كان صوتها رخيما حزينا وكأنّه خُلق لرثاء الموتى، وكانت خبيرة بنسبة جلائل الأعمال للميت والاعلاء من شأنه حتى وإن كان في حياته خاملا مغمورا أو عييّا أو ،،،عنينا، ويذكر سكّان الدوّار كيف أنّها جعلت من عم الهادي الذي طلقته زوجته لسبب لا يجوز التصريح به فحلا بل حلما لكل العذارى.

ولم تكن خالتي ساسيّة تبكي موتانا لوجه الله فقد كان مطلوبا من أهل الميت إكرامها بمجرّد الانتهاء من حفلة النواح بحسب وضعيتهم الماديّة “وكلّ قدير وقدرو” وإذا تغاضى أهل الميت عن إكرامها أو منحوها أقلّ ممّا تستحقّ، طالبتهم صراحة بـ “حقّ دموعها” وأنذرتهم بأنها لن تبكي موتاهم مستقبلا، ولم تكن رحمها الله تبكي الأغنياء والفقراء بنفس الحماس، فقد كانت “تُدوْزن “دموعها ومراثيها واخلاصها في البكاء بحسب مكانة الميّت ووضعيته الاجتماعية، فإذا كان الميت فقيرا ومغمورا اكتفت بتكرار مراثيها القديمة دون أن ترهق مآقيها بالبكاء، وإذا كان غنيا وذا مكانة أخلصت وابتكرت وبكت وأبكت، وكان الجميع في الدوار يسألونها “زعمة واش تڤولي فينا كي نموتو؟” فكانت تردّ مبتسمة بخبث “حسب فليساتكم ودجاجاتكم اللي يعطوهملي جماعتكم”.

وحين تُوفّيت خالتي مبروكة أخت هنيّة الأثيرة، طلبت منها يمة أن تبكيها وترثيها كما لم تبك أحدا قبلها، فقد أوجع موتها يمّة وكان مطلوبا من خالتي ساسيّة أن تخلص في بكائها ورثائها بما يخفف على يمّة وجعها الرهيب، ويشهد الله أنها أخلصت وأبدعت حتى أن يمّة جازتها بجدي بحاله.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock