الإثنين 2 يونيو 2025
صالح التيزاوي
صالح التيزاوي

نجوى وشكوى في ذكرى مولده..

صالح التيزاوي

في مطلع القرن العشرين كتب الشّاعر والفيلسوف الهندي محمّد إقبال قصيدته الشّهيرة “شكوى وجواب شكوى”، ترجمت إلى اللّغة العربيّة تحت عنوان “حديث الرّوح”، وقد ذاع صيتها بعد أن غنّتها أمّ كلثوم. بثّ فيها محمّد إقبال أحزانه وشجونه إلى اللّه على ما آل إليه حال المسلمين في عصره من انحدار في كلّ أقطار الأرض. فماذا يمكن أن نقول نحن المسلمين اليوم في مطلع الألفيّة الثّالثة وفي ذكرى مولد المصطفى وقد ازداد حال المسلمين سوءا وانحطاطا ؟

يتساءل كثير من النّاس، بعضهم عن حسن نيّة وبعضهم ربّما بسوء نيّة: لماذا الأمم التي يعتبرها المسلمون “كافرة” تنعم اليوم بطيب العيش والرّفاه الإجتماعي والتّقدّم العلمي، بينما المسلمون الذين وصفهم قرآنهم بأنّهم خير أمّة أخرجت للنّاس، ضاقت عليهم أوطانهم، وأصبحت الهجرة إلى بلاد الغرب حلما، يركب شباب الأمّة من أجله قوارب الموت، هروبا من جحيم الإستبداد ومن البطالة وفقدان الكرامة في أوطانهم؟

والجواب على حيرتهم، أنّ الأمم التي نسمّيها “كافرة” انتصرت للعدل في وجه الظّلم، وانتصرت للمساواة في وجه الحيف والتّفاوت الطّبقي والجهوى، وانتصرت للحرّيّة في وجه الإستبداد والإستعباد. نواميس الحضارة تقضي بأن تنتنصر الدّولة العادلة وإن لم تكن مسلمة وتنهزم الدّولة المسلمة مادامت ظالمة…

تروى كتب السّيرة النّبويّة الشّريفة أنّ أسامة بن زيد حبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أراد أن يتوسّط للمرأة المخزوميّة لمّا سرقت، حتّى لا يطبّق عليها رسول اللّه حدّ السّرقة وقد كانت امرأة ذات مكانة في قبيلتها، فغضب رسول اللّه وقال حديثه الشّريف “واللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطع ت يدها”. فما هو حال العدل اليوم في بلاد المسلمين؟

في واقع المسلمين اليوم عدالتان: واحدة للفقراء وأخرى للأغنياء، والقوانين تطبّق كالسّيف على الفقراء، بينما يتعطّل تطبيقها عندما بتعلّق الأمر بالأغبياء حين يفسدون في المجتمع. وعند الأزمات، يدعى الفقراء إلى التّضحية، “في سبيل الأوطان” بينما الأموال مكدّسة في جيوب الأغنياء، وحساباتهم السّرّية خارج الأوطان.. أين نحن من سيرة خاتم الأنبياء والرّسل؟ فقد كان رسول اللْه صلّى اللّه عليه وسلّم أوّل من يجوع بين أصحابه وآخر من يشبع، فلقد تحمّل معهم عضّة الجوع في سنوات المقاطعة بمكّة المكرّمة في بداية الدّعوة الإسلاميّة.

لقد حذّر رسولنا الكريم الأمّة من هذا المصير البائس الذي آلت إليه، عندما أخبرنا بأنّه سيأتي زمن على الأمّة، تتداعى فيه عليها الأمم، كما يتداعى الأكلة إلى قصعتهم، وعندما سأله صحبه الكرام: أمن قلّة نحن يومئذ يارسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه وسلّم “بل أنتم يومئذ كثير ولكن كغثاء السّيل”. لا تشكو أقطار المسلمين اليوم من قلّة في العدد ولا قلّة في الثّروات ولكنّها تشكو قلّة في العقل والعلم وقلّة في الحكم الرّشيد وقلّة في الأمانة وفي إيمان حكّامها بدورها الحضاري بين الأمم والشّعوب.. وماذا تصنع أغلبيّة أميّة وجاهلة وفقيرة ومريضة؟ فهل تصلح مثل هذه الكثرة لبناء حضارة؟ ضيّعت أمْة الإسلام إيمانها برسالة نبيّها ومعها ضيّعت الأمانة، فضيّعت دنياها كلّها.

يقول محمّد إقبال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان… ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين… فقد جعل الفناء لها قرينا..

غير أنّه من اللافت للإنتباه أنّ كلّ الحضارات عندما تصاب بالوهن تزول وتندثر وتصبح أثرا بعد عين، إلّا الحضارة الإسلاميّة، رغم النّكبات المتتالية (الإستعمار، التّجزئة، التّبعيّة، الإستبداد) ورغم كونها اليوم على هامش التّاريخ وخارج دائرة الفعل الحضاري، ورغم حالة سقوطها الذي طال أمده، فإنّ كيانها المثخن بالجراح مازال ينبض بالحياة، وما زال المصلحون يقاومون أسباب تخلّفها بطرق مختلفة ومازالت تملك من المقوّمات الرّوحيّة ما يؤهلها للنّهوض وإمكانيّة استئناف دورها الحضاري:
يقول الشّاعر محمّد إقبال في نجواه وشكواه إلى اللّه:
ألم يبعث لأمّتكم نبيّ يوحّدكم على نهج الوئام
ومصحفكم وقبلتكم جميعا منار للأخوّة والسّلام.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

صالح التيزاوي

هل هي ليلة بدء الحساب؟

صالح التيزاوي  لقد سبق للكيان منذ عام 48 أن واجه أنظمة عربية ولكن لم يسبق …

صالح التيزاوي

الأمّة الصّائمة و الصّامتة

صالح التيزاوي  يقول الأمريكان وبعض حلفائهم، إنّهم يبحثون إنشاء ميناء بحري في غزّة لإغاثة أهلها …

اترك تعليق