الإثنين 31 مارس 2025
علي المسعودي
علي المسعودي

بيـــــان الخـلـع …

علي المسعودي

الجامعة العامة للتعليم الثانوي تنتحر كل يوم.. وفي كل يوم تقطع شريانا من جسدها بحثا عن حبل الوريد !

رأيي الذي تشكّل خلال سنوات المهنة المُضنية أن منظومة التعليم هي مثل الرجل المريض، وأن الجامعة العامة هي العضو الأشدّ سقما واعتلالا.
إن إصلاح التعليم هو حرث في البحر مادامت الجامعة العامة على حالها، ولم تشملها ورشة إصلاح جذرية تجعل منها قاطرة حقيقية، بدل أن تبني مع ساسة البلد زوارق الموت إلى لامبادوزا !.
لهذا أقول دائما أن الجامعة العامة هي شريكة في الجريمة المرتكبة بحق التعليم بقدر ما هي عليه الحكومات المتعاقبة.

إن منظومة التعليم لا تحتاج إلى أجور مجزية للمربين وميزانيات معقولة للمؤسسة التربوية فحسب، بل إلى ثورة في البرامج والتقييم، وإلى تصوّر جديد للفضاء التربوي في علاقة بروّاده ومحيطه، والأهم من كلّ ذلك إعادة تأهيل قانوني للمؤسسة وأهدافها، وكيفية تسييرها.
هذه الضرورات الإصلاحية أمامها حاجز حقيقي اسمه : الجامعة العامة !.. فالجامعة العامة لا تنظر إلى المؤسسة التربوية من زاوية أهدافها التربوية، بل كدار حرب ينبغي التسلّل إلى كل مفاصلها تدريجيا -علنا وفي الخفاء- بهدف الاستيلاء عليها استيلاء تاما !.. وكل وسيلة في سبيل ذلك هي مبرّرة ونبيلة حتى وإن بدت لك شنيعة ووضيعة.
هذه هي الحقيقة المرة، لا أحد يملك ترف الاهتمام بالضحايا المدنيين وسط حرب ضروس حتى وإن كانوا أطفالا.. هم فقط خسائر جانبية لابد منها !.
من أجل ذلك رفعت الجامعة العامة الفيتو أمام كثير من المبادرات الاصلاحية لأنها قد تمسّ من سلطتها المتعاظمة، ومن أجل ذلك رفضت كل محاولة لتغيير الوضع القانوني لسلطة التسيير، واسْتَبْقتهم رهائن لديها أو دروعا بشرية في حروبها العبثية.
لقد تحوّل هذا القطاع إلى مراكز قوى ايديولوجية متحصّنة بأسوار التربية، وإلى سلطة غاشمة تحكمها الزبونية والعلاقات المصلحية لينتهي كل ذلك في شكل بيروقراطية نقابية تمثل الدولة العميقة للتربية والتعليم، أي الماكينة التي تحرّك كل شيء على هواها.. بلا رقيب أو حسيب.
الهياكل النقابية، مهما بلغت محليتها أُفرغت من مضمونها النقابي، والقوانين الداخلية والتنظيمية لم تعد قادرة على تصعيد الأقدر والأصلح.. وأكاد أزعم بأن الجامعة العامة استعارت من النظام القديم كل حِيَلِه الخطابية والقانونية والانتخابية ليبقى السيستام النقابي ماسكا بكل الخيوط. الديموقراطية داخل القطاع أصبحت وهما، أو لعلها كانت كذلك منذ زمن بعيد. وبالتالي لا أمل في التغيير في المستقبل المنظور.

•••

قرأت قبل أيام بيانا للجمعية التونسية لمديري ونظار التربية يطالب صراحة بالاستقلالية النقابية عن الجامعة العامة فغمرني اليأس والقنوط من وضعنا التربوي وأنا أحد منتسبي هذه الجمعية ومن المدافعين عن وجودها منذ نشأتها.
لم أكن في أحد الأيام من المتحمّسين لفكرة الاستقلال النقابي. هل سيبقى كيان محسوس للمؤسسة التربوية بعد أن تتشتت إلى جزر نقابية، تستعرض جيوشها النظامية في حروب باردة أو ساخنة ؟؟.
هل سيكون من المفيد أن تمتلئ المؤسسة التربوية، كل المؤسسة بأكباش تتناطح فقط من أجل التسلية، وأن يكون رأسها أحد هذه الأكباش ؟..
كنت من المتمسكين دائما بالانتساب إلى الجامعة العامة لإيماني العميق بأن أمرها لن يغيّره الله إلا إذا غيره مديروها.
كنت أحلم بأن تتسع الجامعة العامة للتعليم الثانوي لكل الأسلاك التربوية التي تضطلع بوظيفة بيداغوجية، بما في ذلك النظار والمديرون والمتفقدون البيداغوحيون والمرشدون في الإعلام والتوجيه.. جامعة قادرة على وضع تصوّر صحيح لمدرسة المستقبل، وعلى تمثل المشهد التربوي في شموليته ودون اجتزاء.
كنت أحلم بأن تكون النقابات الأساسية والجهوية والمركزية نقابات أسلاك، وأن يكون التمثيل الانتخابي تمثيلا للأسلاك وليس للأشخاص.
كنت آمل بأن تتراجع الجامعة العامة عن تنطّعها الأحمق وهي ترى العواقب السيئة رأي العين، فتجيب النظار والمديرين إلى رغبتهم في الحصول على سلك، ويكون ذلك ثراء للجامعة العامة وكسبا لها ومزيدا من القوة.. ولكن الأحمق يفعل بنفسه الأفاعيل !.
أنا آسف لضياع الحلم، حلم مؤسسة تربوية تخلق من جديد، حيث لا كرامة تمتهن، ولا علم يباع ويبتذل..
.. هكذا البيدر ، له دائما حساباته المُحْبِطة.

أعتقد أن تجربة الزواج العرفي بين سلطة تسيير المؤسسات التربوية والجامعة العامة قد انتهت بعد ثماني سنوات إلى طلاق بائن… وأبغض الحلال عند الله الطلاق..
لقد نبّهت منذ سنة إلى خطورة تمشي القيادة النقابية، وإلى أنها قد تخسر كل شيء من حيث أرادت أن تملك كل شيء.
ومازلت أعتقد بأن الجامعة العامة ليست نقابة لجامعي الحلفاء، فعلى عاتقها تقع مسؤولية رعاية المؤسسة التربوية وحفظ عمرانها. أما السقوط في مهاوي السكتارية ضيقة الأفق فهو مؤذن بكل خراب.
لقد حذرت منذ سنة من أن اليأس من طرق الأبواب قد يدفع سلطة التسيير إلى الحلول القصوى، واليوم فيهم حتى من يدعو إلى خلع مظلة الاتحاد.
ومازلت أعتقد بأن فتح الأبواب للقيمين العامين مثلا ممن لم يمتلكوا خبرة بيداغوجية ليتسلموا خطط الإدارة هو خطأ ينبغي الرجوع عنه في أقرب الآجال.. بل هو مبرّر لعدم اعتبار الجامعة العامة للتعليم الثانوي ممثلا شرعيا ووحيدا !
ولكن ما الفائدة وجنرال الجامعة منشغل منذ مؤتمر الحمامات بجمع الأوراق السياسية، وصديقه المهوّك الضئيل منشغل بلدغاته الفايسبوكية ؟!.
ما الفائدة ولا عقول لمن تنادي ؟
لطالما كان سلوك الجامعة العامة إزاء منتسبيها من المديرين والنظار غريبا وعجيبا !.. لم تكن في بداية الأمر لتشير إليهم في بيانات هياكلها لا بالتلميح ولا بالتصريح، لم تتحدث يوما عن شدّة معاناتهم، ولا عن قلّة دريهماتهم.. لم تنصف يوما مظلومهم، بل كانت في الغالب هي غريمهم.. إلى أن جاءت سنة 2014، لتزيِّن ذيل بيان هيئتها الإدارية بأسمائهم الأصلية، كأساتذة مكلفين !.
رضينا بالذيل، وظللنا نطمع سنوات في وفرة الكيل !.. حتى أصبح الأجر الصافي لمدرس له ثماني ساعات بجدوله الأسبوعي يفوق أجر مدير يعمل اثنتي عشر ساعة في جدوله اليومي !..
صبرنا على الفقر، ولكننا لم نصبر على المهانة والذلّ. فطالبنا بسلك يضمن نفاذ القانون، وصلاح التربية والتعليم، فكان الجواب بكل بساطة: من أنتم ؟!.
توسّلنا إليهم النظر إلينا بعين الرحمة، واستجدينا اعترافا مستحقّا ونحن نقابيون قبل وبعد المهنة، ولكن العناد والمكابرة لا ينفع معهما استعطاف ولا استجداء..
لقد أخذتهم العزة بالإثم.

ثلاث سنوات منذ تأسيس الجمعية التونسية لمديري ونظار التربية، ودار لقمان على حالها.. لا الجامعة العامة ثابت إلى رشدها، ولا المديرون يئسوا من بقية عقل لقادتها إلى أن وصلنا لطلب الخلع.
اليوم، سوء أوضاع المؤسسات التربوية وغياب علوية القانون هو من مآثر إصرار الجامعة العامة للتعليم الثانوي على الطريق الخطأ.
اليوم، بقاء عديد المؤسسات التربوية إلى حدّ اللحظة بلا سلطة تسييرية هو عزوف خطير تقف وراءه الجامعة العامة للتعليم الثانوي.
اليوم، كل الأزمات تقريبا التي يعيشها مديرو المؤسسات التربوية طرفها الآخر هو الجامعة العامة للتعليم الثانوي.. ومن المثير للدهشة والحنق في نفس الوقت أن يقرر هيكل نقابي الإضراب ضد مدير مؤسسة يصادف أنه أحد منتسبيه !.. إذا كان ثمة خلاف بين مدير ونقابة أساسية ألا يكون ذلك خلافا داخليا، أو حتى صراعا نقابيا نقابيا ؟.. هل من المعقول أن تمارس النقابة حق الإضراب ضدّ نفسها ؟؟؟ !!.
الجامعة العامة للتعليم الثانوي أصبحت مثل الغستابو بالنسبة لمنتسبيها من النظار والمديرين !.. لها ألف عين وألف أذن. وفي قلب العاصمة تحاكم النقابة زميلا نقابيا بتهمة التدوين دون تصريح وإذن، وتعود المحكمة إياها لتدين الابنة بنفس التهمة والجرم !.
هل هذه وقائع أم تزيّد وخيال ؟..
في الواقع لم أعد أعرف، فالجنون هو فعل يجعل من الإثنين سيان !.
والجامعة العامة دخلت طور الجنون.

•••

أيها المديرون والنظار، لقد أمْسَكَتْكُم الجامعة العامة ثماني سنوات دون معروف.. والآن، وقد طلبتم الخلع، فحتى الخلع لن يأت بإحسان.
ولكن حال التعليم، اليوم وغدا، سيبقى على حاله كما كان.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

علي المسعودي

فكر استراتيجي … !

علي المسعودي أعتبر نفسي دائما من طائفة المنبوذين بسبب إدماني الشديد على “الكيف” الحلال.. الزوجة …

علي المسعودي

عندما تولد الآلهة .. وتموت أيضا ..

علي المسعودي تحتاج الدولة الغاشمة إلى شعب مؤمن عند الطلب حتى يستمرّ كيانها،.. بل إنها …

اترك تعليق