أحصنة …
علي المسعودي
معركة البشر الحقيقية ليست مع أقدارهم، بل مع الزمن الذي يسبحون فيه.
لقد اختار أوديب أن يسابق القدر ممتطيا الفرس الخطأ. فتجرّع الهزيمة حدّ الثمالة، وحدّ سمل عينيه.. ولو كان أسرع قليلا لأفلت من قاع فكّيه.
•••
الذي جرّ المجتمعات القديمة إلى كتب التاريخ هما شيئان : الحصان كقاطرة مادية، والنخبة كقاطرة فكرية. وغيابهما هو ما اصطلح عليه بما قبل التاريخ.
وفي العصور الحديثة هناك حدثان غيرا مجرى التاريخ : اكتشاف سكة الحديد واكتشاف الانترنيت ! .
الأول بدأ آلة تختصر الوقت في حمل البضاعة، فخلق عالما جديدا هو العالم الصناعي الذي نعرفه، وتاريخا متقلبا في تحوّلاته الاجتماعية المرعبة وحملاته الاستعمارية الجامحة.
والثاني بدأ آلة قتلت كلّيا زمن نقل المعارف، فكسر كل القواقع، والتهم كل الحدود.. وفاض على الأرض مثل طوفان نوح !.
الأول جرّد الأحصنة من تاجها، ومن مجدها عابر القرون.. فأصبح منتهى شرفها التدافع في مرابض السباق لتنال تصفيق الحماهير.
والثاني جرّد النخبة من سلطانها وفخارها، وأصبح منتهى شرفها التدافع في مرابض التلفزيون فقط لتغذية الشعور بأنها على قيد الحياة..
•••
ثمة مهن قد تندثر مع الزمن، ولكن أصحابها يرفضون التكيّف مع العصر، ويصرّون على مزاولتها برغم إدراكهم لعدمية الرفض.
إحدى هذه المهن هو الاشتغال كنخبة في المجتمع، كقاطرة فكرية تجرّ وراءها شعبا، مثل العربة، لا يتحرّك بذاته.. بل لابدّ له من ساحب !.
النخب اليوم هي مثل طعام منتهي الصلوحية، لا يمكن حتى إعادة تدويره.. هي تدرك ذلك جيدا، ولهذا تخشى فضاءات القمامة وتصرّ على البقاء.
هي تحتلّ اليوم منصات بعض الإعلام، وتخاطب رأيا عاما لم يعد يقبل التوجيه أو المأتمة.
هي اليوم تمارس، كما الأيام الخوالي، دورها الموهوم في توعية الشعب، ومنحه بعضا من حقيقتها المطلقة بكل منّ، وبكل سبّ وشتم !..
إن إرادة النخبة هي بقرة مقدّسة، وعليه سيكون من العار تركها واستبدالها بمقولة الشعب يريد !.. وعندما تسألهم : وما هي إرادتكم النيرة يا سادتي. سيجيبونك حتما: نريد كنخبة أن نحكم الشعب تحت شعار إرادة الشعب !..
•••
لقد احتاجت الدولة المركزية دائما إلى نخبة ناطقة باسمها، ومبررة لسطوتها، سواء كانت هذه الدولة ممثلة بمؤسسات أو متماهية مع زعيم بيده كل السلطات. فالنخب المرتبطة بالدولة وظيفتها الطبيعية هي تبرير مصادرة إرادة الشعب.
إن هدم الدولة من خلال تفكيكها هو أكبر خطر على هذه النخبة لأنه بالأساس يفقدها وظيفتها، وكسر احتكار المعرفة بعض من هذا التفكيك..
أما لامركزية السلطة فهو يساوي بالضرورة لامركزية النخبة، أو لنقل اندثارها كسلطة تبريرية تحتكر العقل والنقل.
من أجل ذلك كان الهجوم الأقسى على الفكر السياسي لقيس سعيد هو الهجوم النخبوي لأنه يهدد وجودها وكيانها.. وهي تعلن ذلك بصراحة باعتباره تهديدا لكيان الدولة كملاذ وخيمة يستظلون بظلها ويأكلون من مائدتها.
إنهم يريدون ديموقراطية تمنح الشعب فقط وهما بتقرير المصير، بينما تبقى الإرادة الماسكة بالحكم هي إرادة أقلية سواء كانت فئة أو أوليقارشيا أو عائلة.
إذا كانت الإرادة دوما مصادرة، والتمثيلية مجرد مغالطة.. فلا فرق بين مستبدّ يركبنا اغتصابا، وآخر يفعلها انتخابا.
•••
ما ينبغي أن تفهمه النخب الأحصنة هو التالي :
لم يعد التلفزيون اليوم سيّد الإعلام وفخامته. ولم يعد بالإمكان توجيه الرأي العام من خلاله.. والأهم هو أنه لم يعد هناك رأي عام قابل للقولبة والتشكيل أصلا..