حالة وعي
فتحي الشوك
ما الّذي يجري؟ ما الّذي يحصل؟ سبحان مغيّر الأحوال شباب في عمر الورد يتسابقون لتنظيف شوارع وأحياء المدن والقرى، متسلّحين بمكنسة، مجرفة، مسحاة، مشط وبعزيمة لا تنكسر، ينتابهم نشاط لا يفتر طواعية وتطوّعا دون انتظار جزاء أو شكورا.
هل هؤلاء هم شباب كان يتكاسل ويتثاوب لا يقوم بعمل يؤمر به إلا بعد جهد جهيد ونقاش حادّ وربّما بمقابل وقد يتهرّب منه ليتسكّع في الشوارع أو أمام المعاهد أو ليجلس سويعات في المقهى ليلعب الورق أو يتيه وهو يسبح في شبكات التّواصل ويغيب في إحدى لعبات الفيديو الكثيرة والمثيرة ان لم يسقط ضحيّة الإدمان بأنواعه؟
كيف نجا هؤلاء الشّباب من القصف المركّز لمدّة سنوات ولمحاولة التّغيير الجيني القسري وكلّ الطّفرات؟
كيف أمكن لهم أن يخرجوا سالمين من حقول الألغام ومن شراك منصوبة هنا وهناك؟
وأيّة حالة وعي هذه الّتي انتابتهم بعد كلّ محاولات تغييب الوعي الحثيثة وتزييفه الرّهيبة الّتي تقوم بها المختبرات؟
ظاهرة غريبة وعجيبة ترتقي الى مستوى المعجزات!
هي حالة وعي وانتفاضة وقيامة بعد خمود وركود ويأس دبّ في النّفوس كما طائر فينيق يخرج من الرّماد.
كانت ثورة 17 ديسمبر حبلى بالأماني والمعاني الجميلة وحبّ الحياة تهافت عليها قطّاع الطّرق والسّماسرة وخفافيش الظّلام ليثخنوها جراحا ويحوّلوها إلى جثّة هامدة بلا حراك، لينعوها ويسارعون بدفنها وقلبها ما يزال ينبض وفيها بعضا من حياة… اغتيلت المعاني واغتصبت الكلمات.. انتهى زمن الثّورات. وزمن المعجزات ولا صوت يعلو فوق صوت الطّغاة أعداء الحياة.. هكذا كان يروّج، إحباطا واجهاضا لأيّة محاولة استنهاض أو تطلّع لحياة كريمة أفضل وهكذا كان يعاقب كلّ من يرنو تغييرا لواقع البؤس: خرابا ودمارا ومعيشة ضنكى يجعله يكفر بلحظة تفكيره في التغيير ويكتفي بالتنفّس وببعض الفتات.
ما الّذي حدث بعد سنين اجرامهم وهرسلتهم وقصفهم المركّز على العقول والذّوات قصد تفتيتها واعادة تشكيلها في قالب كينونات طيّعة مطيعة، مهمّشة مشوّهة مضطربة سهلة التّوجيه مسلوبة الإرادة غير قادرة على التفكير؟
هي حالة وعي تجلّت لمعركة وعي كانت تخاض بصمت وبلا طبول تقرع، خرساء في وسط ضجيجهم الّذي يصمّ الآذان وهي ثمرة طبيعية لمسار الثورات الّذي عادة ما تشهد تموّجات من نجاحات وانكسارات لتنتهي في النّهاية بتحقيق الأهداف التّي قامت لأجلها.
استنفار الشباب طواعية وتطوّعا لتنظيف شوارع مدنهم وقراهم هو تجلّ لما يقومون به من مجهود لتنظيف عقولهم من مخلّفات قصف مزيّفي الوعي وملوّثي البيئة والعقول.
أيّ فخر نحسّ به هذه الأيّام وكم يعتزّ بذلك كلّ حرّ وكلّ انسان وكم يؤرق ذلك الطّغاة، خفافيش الظّلام والغربان.