المنصف المرزوقي : العائد من بعيد قد تنكره الذاكرة
مهدي مبروك
غادر الرئيس الأسبق السيد منصف المرزوقي سدة الرئاسة يوم 30 ديسمبر 2015 على اثر خسارته السباق الانتخابي الذي دار في شهر أكتوبر من ذات السنة. سلم مقاليد الحكم لأول رئيس منتخب بعد الثورة متنازلا عن كرسي الرئاسة في سابقة نادرة في العالم العربي احتراما للدستور ولصندوق الاقتراع. ولكن بعيدا عن ذلك الانضباط الدستوري لم يكن الأمر هينا على الرئيس خصوصا وهو الذي كان يعتقد أنه الأوفى لروح الثورة والأقرب الى نبض الشعب من خصمه الباجي قائد السبسي. يستحضر نضالاته الحقوقية قبل الثورة وتمر أمامه مئات الصور وهو يزور المهمشين والفقراء أثناء الكوارث والجوائح الطبيعية التي عرفتها البلاد بعد الثورة، يحمل على كتفيه جثامين شهداء المؤسستين الأمنية والعسكرية ممن سقطوا في ساحة الوغى ويستقبل الناس البسطاء في قصره…
غير أن ذلك لم يشفع له وخرج من «الباب الصغير» كان كسم الخياط ضيقا خانقا… لا شك أن تلك الخصال لم تكن الوصفة السياسية الفضلى حتى يجدد له الشعب الثقة ويمنحه فرصة البقاء في قصر قرطاج… عبر الرئيس في أوساط مقربة منه أن السياسة لا تخلو من نكران ومكر وجحود. كان الرئيس يخيل اليه أنه لم يسلم السلطة الى خصم سياسي أفرزته صناديق الاقتراع بل الى «عدو سياسي» انقض على الثورة بعد أن أعادته الدولة العميقة التي عجز عن تفكيكها… سلم السيد المنصف المرزوقي السلطة غير أنه لم يستسلم بيسر لتك الحقيقة المؤلمة التي بانت في أيام قليلة بعد خروجه من القصر: عودة تمجيد صور الرئيس الباجي، تبجح “أعداء الثورة” بعودتهم الى وسائل أعلام عديدة، اقالات بالجملة لبعض ممن تولوا مسؤوليات في عهد الترويكا ومضايقات لمن أبدى تعاطفا معها… كان يحتاج الى متسع من الوقت حتى يستوعب كل هذا الذي يحدث. ثمة ما يشبه الذهول السياسي الذي خطفه مدة ليست بالهينة. كانت الرسالة للناخبين واضحة وصداها يجلجل: لقد عاقبوا من جاءت بهم الثورة بكثير من الجرأة والقسوة وازاحوا الترويكا وما حولها: حزب الرئيس أي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، النهضة والتكتل من أجل الحرية والعمل وبعض الشخصيات المستقلة.
غادر الرئيس قصر قرطاج واتخذ لاحقا من أحدى الفيلات بحي راق بتونس العاصمة مركزا للبحوث والدراسات على أمل أن يكون ورشة لانتاج الرؤى والمقترحات وحتى يساعده فيما بعد على تجديد الحزب… واضب رفيقه ومدير حملته عدنان منصر على تنظيم بعض اللقاءات في شكل «ثانك تانك» خاضت في قضايا وطنية وإقليمية ودولية. كانت الاجتماعات محدودة وشبه مغلقة عجزت فيما بعد عن خلق دينامية حولها وقد يكون الحصار الاعلامي على أنشطة الرئيس السابق سببا في ذلك الانقطاع والغيبة التي يتوارى بعيدا عن انظار الناس بمن فيهم مناصروه.. لكأن أمرا ما صدر بعزله ودفنه سياسيا وهو حي.
لم يفعل الرئيس شيئا ذا بال للتحرر من تلك «الإقامة الجبرية» التي «اختارها« وربما جازف في البداية غير أنه تعرضه من حين الى آخر الى مضايقات بلغت حد الإهانة وهي التي لم تلق تنديدا صريحا من الطبقة السياسية رغم خطورة ما ارتكب في حقه من مس بالحقوق الأساسية التي نص عليها الدستور: كحرية التنقل وغيره، لم يزده كل هذا الا انسحابا. ومع ذلك لا أزال اعتقد أن الرئيس الأسبق استسلم ولم يقاوم مشاعر الرفض وحتى »الكراهية» التي حاصرته وآثر الهروب الى الأمام وعدم المواجهة: فلقد سافر معرفا بالثورة التونسية من حين الى آخر ضمن ديبلوماسية سياحية من خارج الأجهزة الرسمية. فحصل الرئيس على العديد من الجوائز والأوسمة وكان محل ترحاب أينما حل في الدول التي زارها: اليابان، كوريا الخ….
غاب السيد المصف المرزوقي عن المشهد السياسي الوطني رغم ما عرفته البلاد من تجاذبات وأحداث عظام مكتفيا من حين الى آخر ببعض التصريحات النادرة. أما ما كان يكتبه على صفحته الفايسبوك التي عبر فيها عن مواقف معينة مما يجري في البلاد فلم تردد صدى. هذا “الحضور عن بعد” من خلال البيانات. لم يكن كافيا خصوصا وان منافسيه أو البعض منهم على الأقل قد اعتمدوا على استراتيجيات أخرى هي «الاتصال المباشر» ولكن وفق تقنيات جديدة ومقاربات غير مسبوقة مستوحاة من الجغرافيا التسويقية الميدانية. كان نبيل القروي من خلال جمعيته الخيرية وبقطع النظر عن الاستقامة الأخلاقية للرجل فقد خاط نسيجا دقيقا للبلد فلقد “خيط البلاد غرزة غرزة” أما السيد قيس سعيد فلقد تحلق حوله مجموعات افتراضية مغلقة من الشباب هي أقرب الى «الطوائف الافتراضية« واتخذته «مرشدا روحيا وعلميا» كانت أولى الحلقات التي آمنت به عند اعتصام القصبة ولكن حين تعمقت تلك الخيبة لما «انحرف التأسيسي« عن احلامهم وتبنى نظاما سياسيا مركزيا يعتقدون ان الدولة ستتغول من خلاله لا محالة فتلتهم الدولة المجتمع عادت اليه تستفتيه في أمر سبل المقاومة. اعتمدت هذه المجموعات الافتراضية فيما بعد على التشبيك الافتراضي والانتشار من خلال الفضاء الأزرق الذي منحته لهم الوسائط الاتصالية الجديدة. على خلاف منهج الانتشار هذا وفي الضفة المقابلة كانت جمعية خليل تلك وجيشها المؤلف من السماسرة والوسطاء تعمد الى تشبيك ترابي يرعاه أفراد محليون ينتمون الى تلك المداشر والقرى والأحياء..
كان منافسو المنصف المرزوقي (فيما بعد) يخططون منذ أكثر من ثلاث سنوات استعدادا للمنازلة الكبرى في حين كان الرجل قد قطع صلته بالسياسة بهذا المعنى.
خسر السيد المنصف المرزوقي اثناء ذلك (2014- 2019) حزبا كان الى حد ما موحدا رغم بعض الاستقالات المبكرة على غرار محمد عبو الذي أسس حزبه لاحقا: التيار اتلديموقراطي والهادي عباس وعبد العزيز القطي وعياض اللومي الذين ذهب بعضهم الى أحزاب منافسة وفضل البعض الآخر عدم التحزب…
غير أن الحزب سيشهد موجة أخرى من الاستقالات عمد اليها عدد من المؤسسين الأوائل ورفاق درب حتى قبل الثورة من أمثال عبد الوهاب معطر وسمير بن عمر وغيرهم…. ظل هؤلاء تحت لافتة حزب المؤتمر وذهب هو وبعض رفاقه من أمثال عدنان منصر والكحلاوي الى تأسيس حزب “جديد” حراك الإرادة… لا ندري ما حقيقة كل تلك الصراعات والاستقالات وخلفياتها وهي التي أضرت بالجميع خصوصا تلك الاستقالة الجماعية التي انسحب فيها أكثر من 80 منخرطا قي أواسط سبتمبر 2018… كانت بعض الانتقادات توجه من حين الى آخر الى بعض العناصر القيادية التي تتهم بطردها لكفاءات وتعمق ثقافة الولاء والمحسوبية وهي اتهامات رد عليها هؤلاء بكل حدة متهمين مروجيها باضعاف الحزب والعمل لفائدة الغير، وتتالت الانسحابات بشكل درامي تحولت فيه الأحزاب المتناسلة من المؤتمر الى «أحزاب التاكسي». حتى ان البعض منها لم يتقدم الى الانتخابات البلدية و حتى التشريعية والرئاسية الحاليتين. حتى قدم السيدان عدنان منصر وطارق الكحلاوي استقالتيهما من حزب الحراك في سبتمبر 2018 مصحوبة بتصريحات خطيرة اتهمت الرئيس الأسبق بالاصطفاف وراء محاور اقليمية الخ… اكتفى السيد المنصف المرزوقي بمعالجة تلك العلل بتدوينات شعرية على صفحته الفايسبوكية.
الخسارة التي مني بها السيد المنصف المرزوقي والتي كانت قاسية و«مهينة« تعود في اعتقادي الى جملة من العوامل التالية:
• عدم استعداده للانتخابات بما يكفي ولم ياخذها مأخذ الجد اذ اكتفى بالالتحاق بالسباق الانتخابي في الثواني الأخيرة. فلم يثر حوله أي «ضجيج» انتخابي ولم يفلح في جلب الانتباه وظل مثله مثل أي مترشح آخر يدخل السباق لأول مرة مغامرا وكأنه بلا تاريخ ولا ذاكرة.
• عودته المتأخرة الى المشهد السياسي بعد غيبة طويلة كاد فيها أن ينسى ولقد رأينا كيف أن رئيس حكومته حمادي الجبالي كان يسأل الناس اثناء حملته الانتخابية في القيروان مثلا ان كانوا قد عرفوه؟. فيجيب البعض صدقا: لا نعرفك. من انت؟.
هذا الجيل الجديد الذي دخل التجربة الانتخابية: مليون ونصف ناخب كان جلهم أحداثا حين غادر المرزوقي الحكم وهم لا يذكرون له فضلا او خصلة لأنه لم يعايشوا فترة حكمه… كان البعض من هؤلاء لما تولى المرزوقي الرئاسة المؤتة لم يبلغ بعد 12 سنة… هذا الجيل هو الذي انجذب الى قيس سعيد الذي رافق الشباب من خلال اللقاءات العديدة التي جمعتهم به او من خلال تلك الشبكات التي التفت حوله مرشدا و موجها بيداغوجيا.
• عجز السيد المنصف المرزوقي عن استثمار الذاكرة والصيت اللتين حظي بهما لدى فئات اجتماعية واسعة. بل حدث العكس في مواطن عديدة حيث تم اهدار ذلك الرأسمال وتبديده ولم يكن ذلك جراء الأخطاء فحسب بل النسيان والإهمال. لم تعد ذاكرة التونسيين قادرة على تخزين هذا الكم الهائل من السياسيين: رؤساء ووزراء ونوابا الخ. شعر العديد من الناخبين ان المرزوقي انه “رئيس انتخابات” فقط يطل عليهم من انتخابات الى أخرى. لم يتعهد المرزوقي الذاكرة ويعيد احياءها.
• لم يفلح السيد المنصف المرزوقي في محو العديد من الأخطاء التي نسبت اليه بقطع النظر عن صدقها. ولم تستطع الاطلالات الإعلامية العديدة اثناء الحملة الانتخابية تبديد تلك الشكوك خصوصا تلك التي تعلقت بلقائه ببعض شيوخ السلفية ومؤتمر أصدقاء سوريا، تسليم رئيس الحكومة الليبية بغدادي الحمودي الخ فالإشاعة اذا انتشرت يصعب تبديدها ان لها جلدة تستعيرها من التمساح.. خصوصا في ظل اعلام عمومي ظل يشاكسه ويتصيد عثراته.
• يبدو أن الوفاء للثورة ومناهضة النظام القديم ومعاداة الدولة العميقة ذلك الرأسمال الذي كاد أن يحتكره لنفسه وحده خلال انتخابات 2014 قد نافسه فيه الكثير هذه المرة حتى من داخل الفضاء الذي يقف عليه : نذكر منهم عبد الفتاح مورو، سيف الدين مخلوف محمد عبو وغيرهم. عجز الرئيس المرزوقي ان يتفرد مجددا برأسمال الثورة وان يكون ناطقا باسمها فلقد سحب رفاق الامس منه هذا الرأسمال.
ان وفرة العرض السياسي داخل العائلة الواحدة التي انتمى اليها المرزوقي انهت احتكار الوفاء للثورة والالتزام باستحقاقاتها. لم يعد السيد المنصف المرزوقي قادرا على ادعاء ذلك أمام عدة منافسين حمادي الجبالي، محمد عبو، سيف مخلوف فضلا عن بعض مترشحي اليسار او حتى غيرهم بل ان البعض بدا اكثر جرأة ومجازفة منه وقد يكون قد استحوذ على قاعدته. (سيف مخلوف، الصافي سعيد وحتى لطفي المرايحي…) ولعل ابرزهم قيس سعيد.
لم يكن الرئيس المرزوقي مرشح حزبه حراك تونس الإرادة بل مرشح تحالف انتخابي لا أحد يعرف له رموزا آو خلفية (تونس أخرى) وفي اعتقادي انه لم يوفق في التحرك على الأرض وظلت خطواته بطيئة مفصولة عن المحليات ولا تمتلك رموزا محلية تثبت أقدامها كانوا هواة يفتقدون لذلك الالتزام النضالي الذي تحلى به مناصرو سعيد مثلا.
• ارتكابه أخطاء اتصالية رافقت حملته وخصوصا موقفه من »شعب النهضة» مما نفر حتى بعض النهضويين منه وذهابهم الى مرشحهم عبد الفتاح مورو وبعض المحسوبين على العائلة الاسلامية ان ترشح مورو قد سحب من قاعدته فئات واسعة يبدو انها صنعت الفارق في انتخابات 2014 ولذلك عامل جاهدا على استمالته حتى ولو دخل »بين الظفر واللحمة الحية» بشكل مؤلم.
• لم يجدد السيد المنصف المرزوقي بعد غيبة دامت قرابة خمس سنوات خطابه وظلت استعارته ونبرته ثابته في حين كان الناس والشباب تحديدا يرغبون في عرض جديد مغاير غير أنه لم يتم الاستماع اليه وفقد كان السيد المرزوقي من بين من ملّتهم تلك الفئات الجامحة والمدبرة على كل حكام الماضي حتى من كان منهم »منصفا». كانوا جميعا بضاعة مستهلكة في حين كان الشباب يبحث عن عرض جديد لم يجرب من قبل ولم يدخل السلطة.
• لم يراهن السيد المنصف المرزقي على جمهور بعينه بل ظل خطابه متجها الى عموم الناخبين فلم يرسم ملامح ناخبيه: اصولهم الاجتماعية، أوضاعهم المادية، تطلعاتهم، فئاتهم العمرية حاجاتهم… فالتوجه الى عموم الموطنين في هلامية باهتة وعدم تخصيص فئات محددة كل ذلك جعل صوته يضيع في الزحام الانتخابي. لا احد كان معنيا بتلقيه…
• شعب النهضة، دفتر خانة والعصفور النادر :
ظل السيد المرزوقي يمني النفس بأن تعيره النهضة قواعدها الانتخابية كأصوات يستفرد بها ولم يصدق أنها تفاوض في السر الشاهد أو غيره. لذلك ظل يغازلهم الى آخر لحظة الى ان قدّمت النهضة عصفورها النادر فلم يكن بامكانه ان يعوض هذه الكتلة الانتخابية ويتدارك أمره في الأمتار الأخيرة.
عاد السيد المرزوقي من بعيد… كأنه بعث في ساعة لا تتسع لوجوده فلم يستطع قراءة صحائفه على جمهور واسع كانوا قد اعرضوا عنه ينصتون الى صحائف أخرى هي أكثر اغراء وأشد غواية..
تنويه : هذا المقال هو الثالث في سلسلة من المقالات تسعى الى فهم نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الأول. وقد صدر اليوم بموقع المجلة الالكترونية المتميزة اسطرلاب.