مقالات

خريف المفاجآت ..

علي المسعودي

كل ممارسة ديموقراطية تفتقد عنصر المفاجأة هي ممارسة مغشوشة، وكل موعد انتخابي لا يحمل صدمة لبعض الناخبين أو النخب، هو موعد للخداع والكذب..
وشهر سبتمبر حمل لنا نبأ سارّا على غير عادته. لقد كشف لنا أن الممارسة الديموقراطية مازالت قادرة على قتل سياسي بجرّة قلم، وعلى بعث آخر إلى الحياة من العدم، مازالت بقلب نابض، وكنت قد خلتها شخصيا أنها ماتت منذ 2011، أي في طور النفاس.
لطالما كانت الديموقراطية تشبه بابا نويل، ولكن المستبدّين يصادرون دائما حقيبة مفاجآته وهداياه..
•••
هذه السنة مات قايد السبسي، السياسي الذي لا يموت، ومات بن علي، الميّت أصلا قبل أن يموت.. ولكن معهم أيضا قضت تقريبا كل الزعامات التاريخية المعارضة لعهود القهر: بعضهم اختار الانتحار الطوعي مثل السيد منصف المرزوقي، والبعض الآخر آثر أن يُدفن مع خصمه اللدود الذي خلنا أنه كان، مثل السيد نجيب الشابي، والبعض ذهبت به تصاريف السياسة إلى زوايا النسيان…
إنه يوم 14 جانفي الطويل الذي أشرقت شمسه قبل تسع سنوات ولم تغب إلا في شهرنا هذا ويومنا هذا.. إنها الثورة مجددا، يتيمة وعارية دون خصوم تقليديين ودون آباء، إنها الثورة وقد تحرّرت أخيرا من كل الرموز والزعماء.. وهي تراكم ولا تنهزم..
وبعد الموت تأتي الولادة..
والحالة المدنية تشير إلى الخامس عشر من شهر سبتمبر من نفس العام.
ففي هذا التاريخ وُلد توأم غير حقيقي، في زمن غير حقيقي، الأول هو رجل الإعلام والاحتيال نبيل القروي والثاني هو أستاذ القانون قيس سعيد.. الرحم هي نفسها، رحم الثورة ومسار الانتخابات، والمولودان كلاهما يجسدان روح السياسة بما فيها من فعل مدنّس وتوق إلى الفعل الطهوري والمقدّس.
لقد كانت نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الأول ثورة على الفشل الذي صاحب الخط الثوري منذ 2011.. فقيس سعيد أخذ من أصوات الديسمبريين ولم يأخذ من أصوات النوفمبريين.. وكانت ثورة على الشعبوية السافرة، وعلى المقولات النخبوية المتعالية والخيانة الموصوفة لليساريين والاسلاميين على حدّ سواء.. فقيس سعيد انتخبه الوعي في حين انتخب الآخرين تشوّهه أو غيابه.. وقيس سعيد انتخبته التجربة الثورية المريرة.. بينما اليسار عاقبته مرارة الخيانة وأدوار التياسة، والاسلام السياسي اصطفافات ضد الطبيعة في السياسة..
كان قيس سعيد ثورة على من تزعموا الخطاب الثوري وانحرفوا بمساره.
هو ثورة داخل “دولة الثورة”.
كان قيس سعيد عملا نقديا لتسع سنوات من جبن الممارسة واسهال الشعارات الكاذبة واعلانا لبداية مرحلة جديدة على أنقاض حشد من الجماجم الثورية التي لم تصلح في حياتها الديسمبرية لغير التقاتل الأهلي المدمّر.
أما المنظومة فمازالت كما هي غير منقوصة.. ولكن يترصّدها خطران: موتها العاجل على يد نبيل القروي وقدرها الآجل على يد قيس سعيد.
•••
هناك ميّت أخير وجب إكرامه ودفنه، هو سطوة الإعلام، والأدوات التقليدية في توجيه الرأي العام.
لقد اعتقدت النخبة المزيفة مدعومة من نخبة إعلامية مرتزقة أن بإمكانها تشكيل المشهد السياسي وتعديله وفق أهوائها ومصالحها الطبقية والاوليغارشية للخمسين سنة القادمة.
هذا الاعتقاد الراسخ، هو ما جعلهم في صدمة، فطوفان التوجيه الاعلامي، وإغراق السوق السياسية بالفساد والرشى الانتخابية والوعود الزائفة.. كل ذلك أصبحت فعاليته محل شك، أو على الأقل لم تمنع من نهوض وعي حقيقي..
لقد استطاع هذا الإعلام الأسود تحريف شعار الشعب يريد إلى شعارات السيستام يريد والفساد يريد والاستئصال يريد والنخبة الوظيفية التابعة تريد.. واليوم تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بوقف هذا التهديد المباشر للرأي العام، وتأخذ جانبا مهما من الكعكة، بما يجعلها السلاح الحصري للثورات، في كل الأوقات.
•••
بجانب مشهد الموتى من كل الأصناف، هناك مريض اكتشفنا مع الانتخابات أنه يشكو مرضا عضالا يجعله بين الموت والحياة.
إنه العمل الحزبي.
فهذه الممارسة تعاني أزمة عميقة في الهويّة، وأحيانا تعبّر عن ميول انتحاريّة فيتشقق جسدها إلى أن يتذرّر ويختفي عن مدى الفعل والنظر.
الحزب الأكثر تنظما ومأسسة تراجع خطوات إلى الصفوف الخلفية..
والأحزاب التي تسمي نفسها يسارية وقومية، تأكد أنها ستظل لقرن قادم في حالة صفريّة..
أما بقية الأحزاب التي تُحسب تجوّزا على الحداثة والوسط، وتوسم عدلا بأحزاب السيستام والنمط، فهي أحزاب فقط وفق قانون الأحزاب، بينما هي بالفعل عصابات جهوية أو مالية تجمع بين أفرادها المصلحة ويفرقهم التموقع والخصومة الدائمة حول المسروق والقسمة.. وهل رأيت عصابة تمتلك برنامجا حزبيا، رجعيا كان أو حداثيا ؟؟!.. هل ثمة عصابة لا تكون نهايتها مأساوية ؟؟.
لقد اتضح أن العمل الحزبي يعاني أزمة عميقة، مما دفع جزء مهما من الرأي العام إلى معاداته، وإلى تحميله المسؤولية عن فشل المسار الثوري وسوء مآلاته.. وكان المترشحان للدور الثاني هما الترجمان، والبيّنة والبرهان.
هل سألتني عن قناعات قيس سعيد ؟ هل سألتني عن موقفه من الإعدام ومن المساواة، عن خطورة التصويت على الأفراد بدل القوائم في بلد متخلّف، عن رأيه في السياسة الخارجية وتقديسه للشرعية الأممية ؟ عن رؤيته للحكم ومستقبل الأحزاب ؟
في الواقع هذه الأسئلة لا تهمني، هو رجل حرّ، وله رأيه الحرّ.. وليس لهذه المواقف من أثر على خياري أمام صندوق الانتخاب. فالشعب هو الذي يريد، وليس شخصا مفردا حتى ولو كان رئيسا اسمه قيس سعيد..
الخيار الصحيح هو أن تنتخب السياسة بدل الفساد.. والباقي تفاصيل.
•••
إذا كان برنامج القروي يتلخص في تخصيص السرقات وتعميم الصدقات، فيأكل السياسي “من زاد الناخب ثم يطعمه” على حدّ تشبيه المتنبي فإن برنامج قيس سعيد هو تغيير الدستور، لاعتقاده أنه بنى هرم الحكم بالمقلوب.. وأنه لابد من استعادة بناء تأسيسي جديد.
ولكن هل لهذه البرامج معنى أو أفق ؟
في الواقع هي تتأرجح بين العدم والإمكان.. فهي ممكنة أو منعدمة برغبة المشرع الذي سيكون.
فالتاريخ الفعلي لانتخابات الإعادة هو السادس من شهر أكتوبر وليس الثالث عشر منه.. والسلوك الرئاسي سيحدده سلفا لون المجلس النيابي بغض النظر عن اسم الرئيس. هو القوّة الناخبة الحقيقية، وبوجودها لا معنى في الواقع لأي استفتاء شعبي على الأسماء أو البرامج ولا لأي انتخاب مباشر.
إن مجلسا نيابيا معاديا للرئاسة هو بالضرورة عملية عزل مبكرة، وسحب مباشر لكل صلاحياتها المعدودة، وإن مجلسا نيابيا شديد الولاء للرئاسة قد يخلق ديكتاتورا إذا كان المرشح سيء الطوية، أو يخلق منقذا ومجددا إذا كان ثوريا وحسن المقاصد والنية..
عندما ينتهي السادس من شهر أكتوبر نكون قد عرفنا الرئيس، وإن كنا لم نعرف بعد هل يحمل قرطا ثمينا أم لسانا مُبِينا..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock