خشقجة الانتخابات.. هزّة الصناديق
منذر بوهدي
انتظر الشعب التونسي يوم 15 سبتمبر 2019 بشغف وترقب، بلغا حد الشد والتوتر الكبيرين، نتائج الدور الاول الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها الى حدود الساعة الثامنة ليلا، حين تم الاعلان عن نتائج سيرا لاراء الأولية والتي أسفرت عن بلوغ السيدين قيس سعيد ونبيل القروي الدور الثاني من هذه الانتخابات الاستثنائية على كل المستويات.
لا شك ان مرور الثنائي قبس سعيد المستقل عن الاحزاب والدوائر السياسية التقليدية المعروفة ونبيل القروي السجين المتهم بتبييض الأموال والتهرب الضريبي الى الدور الثاني كان بمثابة اعادة ترتيب مركبة ومعقدة للحياة السياسية في تونس تحتاج مسافة زمنية معقولة للولوج الى ماهية الحدث الكبير في تونس.
تبدو النتائج “منطقية” للبعض باعتبار مسار خمس سنوات من الحكم الفاشل والمعارضة المحدودة والمتشرذمة، عرف خلالها الشعب التونسي كل مظاهر الفوضى والإحباط والتسيب والفشل، وانحلال اواصر الدولة تمظهر اهم محطاتها في احداث وفاة الرضّع ومن ثم إلقاؤها في الصناديق في مستشفى عمومي “ملك للطبقات المهمشة” الى وفاة نساء الزياتين بطريقة بشعة ومهينة ايضا، ودون تغطية اجتماعية وتأمين، مرورا بانقطاعات المياه المتكررة وغلاء الأسعار وانهيار الدينار وغيرها من مظاهر التراجع الاقتصادي والتفكك الاجتماعي بحيث يرى البعض المهمش ان بعض الشعب الآخر المتهم بالفساد والعمالة يستعمل السلطة بتفويض من الشعب في 2014 للسطو على ابسط مقدرات الهامش بل اصبح يهدد وجوده وحياته.
غير انها بدت للبعض الآخر المنتشر في اعماق الدولة منذ عقود انها عاصفة هوجاء هزّت أركان المنظومة برمتها ودفعتها عنوة الى مناطق الخوف والارتباك بل انها تكاد تكون قد انفرط العقد من بين يديها وباتت محنطة جامدة لا تفقه ما يجري من حولها وامام عرشها.
لقد تأكد من خلال الأرقام الرسمية لنتائج الانتخابات الأولية ان الانتخاب كان بمثابة عقاب جماعي من الشعب وخاصة جزء كبير الطبقة الوسطى المهترئة حد القلق والتوجس من تعتبرهم السبب الرئيسي فيما وصلت اليه البلاد من انهيار وتراجع وانتخبوا “المجهول” والمسجون” دون أفق حلول افضل واضحة لتجاوزهم واعتبارهم غير جديرين بالسلطة بقطع النظر عن صلاحيات رئيس الجمهورية.
ان الدلالات السياسية لهذا السلوك الانتخابي تبدو عقابا لكل مظاهر الفساد والتحيل والتهميش المتواصل منذ الثورة وتغييرا في الوسائل التقليدية للعمل السياسي الفعال مع الشعب فقد تمكن الفائز دون حملات ضخمة تحشد لها الانصار وبلا إعلانات اشهارية ومشاركات إعلامية قليلة ولكنها مميزة ومختلفة اما في عمقها فهي تهدف الى استرجاع انفاس الحياة المقطوعة والعودة للحد الأدنى من المؤسسات ومن هيكل الدولة المهددين.
مثلت النتائج ايضا هزة قوية ضد المنظومات القائمة بكل مكوناتها الحزبية والمدنية المركزية منها والجهوية ويعلم الجميع ان توقف عجلة النمو الاقتصادي كانت هي السبب الرئيسي لتواصل الشعور العميق بالتهميش لدى فئات واسعة من المناطق الداخلية والحدودية والأحياء الشعبية اضافة الى تنامي الانطباع بعودة الممارسات النوفمبرية في عديد المجالات من تعيينات في المناصب في الدولة الى المناظرات والترقيات وغيرها مما كان ثار من اجلهم الشعب التونسي.
لم تنمحي ايضا صور قوارب الموت التي أغرقت شباب تونس في عرض البخر الأبيض المتوسط مهاجرا انسداد الامل في تونس جراء هذه الطبقة السياسية التي لم توفر مناخا افضل يجعل رحلة الموت خيارا جزافيا لا طائل منه وكان هناك شكوك ان الدولة تغرق ابنائها عنوة وضلت السلطة تعتقد انها في مأمن من غضب الشباب الذي بلغ حد اليأس تماما.
كانت كذلك ثورة ضد الحڤرة يسود انطباع ايضا لدى شرائح واسعة من هذا الشباب وبعض الفئات الاخرى ان المركز والدولة المركزية تمثل واحدة من اسباب تراجع التنمية في الجهات الداخلية وان تفكيك السلطة المركزية بات مطلبا شعبيا يستجيب لتطلعات البعض.
واكيد ان هناك اسباب عديدة اخرى ظاهرة وكامنة ستكشفها الاستحقاقات المقبلة اولا وتبرزها جلية الارتدادات الاخرى لإبداعات هذا الشعب العظيم.
سيكون الدور الثاني مركّب ايضا فالمنظومة امام امتحان صعب اذا مر القروي سيتم خشقجتها وتحللها تماما بين السجون والمنافي باعتبار أطباق الانتقام المسمومة والتي قد لا تقبل التسويات لفقدان الثقة بين الحميع وتنمّر المفيوزي “الفائز المؤقت من وراء القضبان وارسال تهديدات صريحة للمنظومة “الفاسدة”.
اما في صورة فوز قيس سعيد ستكون “المنظومة” امام رغبات الرئيس الجديد الوطني والمتمرّد عليها منذ الثورة وغير قابل للتطويع التقليدي من اجهزتها وعرابيها فقد رفض عروضها مساندته ماليا واعلاميا في حملته في الدور الاول والذي سيسعى الى صقل وتقليم اضافر الفساد وتقليع مخالب التهميش والحڤرة وتطويع الدولة لخدمة المواطن واحترام القانون.