مقالات

ثقافة الشعب التبرؤ منها هل هو حمق ؟ أم عمالة ؟

أبو يعرب المرزوقي

رأيت الكثير من المعلقين يسخرون من مرشح الوطد الذي هنأ الشعب برأس السنة الهجرية. فعجبت لأمرهم. هل لأن الرجل فهم أنه من الحمق السياسي أن يتقدم مترشح لشعب ثم يواصل معاداة ثقافاته ومعتقداته ويأمل في النجاح إذا لم يكن إما أحمقا سياسيا أو عميلا لقوة أجنبية سواء كانت هذه القوة هي المستعمر السابق أو عملاء من أخذ مكانه سواء كان من الغرب أو من الشرق تسنده لأنها اختارته دكتاتورا بديلا من الذي أسقطه الشعب؟
ومثلما سبق فحييت “صدق” اليساريين الذين واصلوا على الاقل في الاقوال التشبث بإيدلوجيتهم التي تؤمن بالوصاية على الشعوب وإيصالها إلى جنة الشيوعية رغم أنوفهم وتحدوا عقائد الشعوب فلم ينافقوا لما كان المناخ السياسي العام لا يعير اهتماما لرأي الشعب إذ الجميع كان يحكم بالعنف والاستبداد فإني اليوم أحيي مبادرة منجي الرحوي الذي أراد بمناسبة رأس السنة الهجرية تغيير اسلوب اليسار في التعامل مع ثقافة الشعب.
فهذا الموقف يعبر عن تحول ينبغي أن يفرح أي مؤمن بالديموقراطية: فهو يعني أنه بدأ يدرك استحالة حكم شعب سلميا وديموقراطيا من دون المصالحة مع معتقداته الأساسية.
وقد يصبح هذا التحول من موضوعات التنافس بين أحزاب اليسار والقوميين الذين سيتخلون عن حماقة معاداة معتقدات الشعب إذا صاروا فعلا يؤمنون بالديموقراطية. ولا أحد يطالبهم بأن يكونوا إسلاميين فعقيدة الفرد له وحده لكن احترام عقائد الشعب من شروط التقدم لقيادته في معاركه السياسية.
ثم إن معتقدات الشعب ليست بالضرورة إسلامية فالكثير منها بمعيار الفقه الإسلامي وثنية. لكنها تكل هي ثقافته ولا يمكن تغييرها بعنف الدولة بل بالتربية والخطاب السياسي المستنير. والقضية ثقافية اجتماعية بالأساس وهي من مهام المجتمع المدني وليست من مهام السياسة إلا عندما تصبح مصدرا لإشكال سياسي فتحسم بالعودة إلى الشعب كما في حالة مشروع السبسي في تغيير الفرائض لأن المس بها باستعمال قوة الدولة ليس من الحكمة السياسية في الأنظمة الديموقراطية لأن ذلك قد يصبح تقسيما للشعب بين حاكم متجبر وشعب يقبل كرها ما يفرض عليه تماما كما كان يفعل المستعمر معه باعتباره انديجان وليس شعبا حرا يختار قيمه بنفسه.
وكذلك ينبغي أن تعالج كل القضايا التي لها صلة بالقيم الأساسية التي يؤمن بها شعب من الشعوب بوصفه شعبا حرا في كل بلد ديموقراطي يعتبر الوصول إلى حكمه لا يكون إلا باختياره الحر وليس بالعنف ولا خاصة بالاستقواء بقوة أجنبية سواء كانت استعمارية سابقة أو من أعراب الثورة المضادة أو منهما معا للأولى القوة وللثانية التمويل.
اخترت هذه المناسبة للكلام على نوعين كلاهما يدعي الديموقراطية والحداثة ويتصور أصحابهما أنفسهم زعماء كبار انتفخت أوداجهم اعتمادا على استبيانات رأي مغشوشة فصاروا يولون ويعزلون في خيالهم وكأن أوهامهم تعطيهم قوة سياسية فعلية بقاعدة شعبية لا تتجاوز المصفقين للعنتريات ضد مافيات الفساد ولا يدرون أن عنترياتهم هي في خدمتها لأنها تحتاج إلى “طهورية” الأبواق في المجالس العلنية و”أخمج” ما يكون في المجالس السرية:

  • الأول للزعم بأنهم يقدمون الدستور على الإسلام في مسألة الفرائض خاصة وعلى معتقدات الشعب.
  • والثاني يتبرأ من التوافق مع النهضة وهذا من حقه لكنه يزعم أن الإسلام السياسي لا مستقبل له.

فأن يقول من يجمع عليه شقوق حزب السبسي أنهم جربوا التوافق ووجدوه غير مفيد وأنهم قرروا أن يتخلوا عن هذه السياسة ويريدون أن يحكموا وحدهم معترفين لغيرهم بحق المعارضة الحرة قد أفهم ذلك. ففيه عودة إلى أصل التداول الديموقراطي. فبوسعهم أن يعتبروا ما حصل كان خطأ وأنه ربما علة تمزق حزبهم أو على الأقل فمن حقهم أن يعتقدوا ذلك. ولهم شيء من الحق في مثل هذه الدعوى لأن لهم شروط موضوعية تجعلهم ربما قادرين على الحصول على الأغلبية.
ومثلهم يمكن للإسلاميين إذا اتحدوا أن يزعموا نفس الزعم فيقررون بنفس المنطق أن يقولوا تونس تجاوزت الصراع ويمكن الآن أن نشرع في التداول الديموقراطي وسنحاول الحصول على الأغلبية. وهم على حق لأن لهم قاعدة ربما تضاهي قاعدة الطرف الذي كانوا يشاركونه الحكم ولو رمزيا. وقد أفهم ذلك أيضا.
لكن أن يأتي من قاعدته لا تتجاوز فتات أحزاب لم يكن لها وزن لا قبل الثورة ولا بعدها أو ليس له قاعدة أصلا عدا بعض المنتفعين من مرحلة حكمه الوجيزة فذلك من علامات أحد أمرين وتفاعليهما على النحو التالي:

  1. إما الحمق السياسي الذي يتدثر بالطهورية الثورية والتي من علاماتها انتفاخ الاوداج بالأصوات العالية والأحكام القاطعة على معركة الفساد التي هي من أعسر المعارك ولا يمكن لأنها ليست معركة يكفي فيها شرعية الصندوق حتى لو حصلت بل لا بد فيها من قوة سياسية ذات قاعدة عريضة يعتمد عليها الحكم السياسي لمنازلتها.
  2. أو العمالة التي تتدثر بالكفاءة التكنوقراطية والتي تستأسد على الشعب بالاعتماد على قوة أجنبية لعل صاحبها حاصل على جنسيتها والولاء لمصالحها قبل مصالح الشعب الذي يريد أن يحكمه رغم أنفه بكل وصائل الترهيب والتجويع الذي يؤدي إلى التبعية والقبول بالمساعدات المذلة خلال الحملات الانتخابية.
  3. وغالبا ما ينتهي الأول إلى الثاني لأن الحمقى من الساسة تحتاج إليهم المافيات بدائل تخفي بأقوالهم ما تريده من أفعالهم في ما “احترقت” فيه أدواتهم السابقة التي اكتشف الشعب أوساخها فتحتاج إلى “طهوريين” يكثرون الكلام على محاربة الفساد بل ويزعمون أنهم منعوا منه في بداية حياتهم السياسية التي ما كانت لتبدأ لولا هؤلاء الذين يستقذرهم.
  4. وغالبا ما يزعم الثاني أنه من كبار الخبراء ومن التكنوقراط في البيع والشراء المغشوشين على حساب شعبه حتى يكون أداة مفضلة لدى شركات النهب النسقي لثروات وطن لم يعد الولاء له يتجاوز الأقوال لأن ولاء الافعال هو للوطن البديل بمنطق الولاء والبراء المطلوب ممن يتفضلون عليه بالجنسية.
  5. وفي الغاية فنحن أمام طبقة سياسية تدعي الديموقراطية والوطنية وهي معادية لثقافة شعبها ولمصالح وطنها شرطين في الحصول على سند المافيات التي تحتاج إلى دثارين تخفي بهما لعبتها: الطهورية الثورية في محاربة الفساد بالأقوال دون شروطه في الأفعال والخبروية التكنوقراطية في بناء النهوض بالأقوال مع تهديمها بالأفعال خدمة لسادتهم الذين عينوهم في هذه المهمة.

ومن اراد أن يفهم الرؤية التي تحكم هذه الحالات الأربع واصلها الخامس فلينظر في قائمات “القوادة” من المناشدين -وقد بدأنا نرى بعضها-. فهم “اخصياء” السياسة من العائشين على فتات موائدها أي من يعتبرون أنفسهم مثقفين والذين هم حاضرون في كل محضر لأنهم من نجوم الرسميات يطبلون لمن يعتبرونه الأقوى في حماية منافعهم التي شعروا بأن الثورة بدأت تهددها أعني أصحاب الاقطاعيات المزعومة أكاديمية أو فكرية أو فنية أو بصورة عامة ثقافة يزعمون لها الحداثة وهي في الحقيقة “حدوثة” بالمعنى المصري للكلمة: هم باعة الفريب الفكري في بلاد “الأنديجان” كما يتصورون شعوبهم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock