سامي براهم
في داخل كلّ منّا جرح عميق يحرّك لاوعيه ويشكّل ذوقه وأحكامه المعياريّة، عندما عيّنت مديرا لمركز الشّيخ الفاضل بن عاشور للثّقافة والتّنوير بالمرسى ورغم هشاشة المنصب “عقد إسداء خدمات” تقبّله العديد باستنكار، بعضهم من منطلق الفرز الأيديولوجي، وبعضهم من منطلق الخوف من تسرّب خصومهم للشّأن الثّقافي، لذلك تعرّضت للمحاصرة والتضييق، كما أنّ بعض أهل المرسى لم يستسيغوا أن يكون مدير فضاء بذلك الحجم والرمزيّة غير مرساويّ بل قاطن في حيّ شعبيّ، وتعرّضت لاستفزازات وتحرّش بهذا العنوان، لكن ذلك لم يمنع الكثير من وجهاء المرسى ونخبها من مختلف الحساسيات من التعبير عن مساندتهم ودعمهم على الأقلّ في حضوري، بل إنّ أحد أحفاد المنصف باي قد أصرّ على استضافتي في بيته تعبيرا عن المساندة.
يوم عرضنا مسرحيّة رجاء فرحات عن بورقيبة رأيت أعيان البلديّة وهم يواكبون العرض بكلّ مشاعر النوستالجيا، لكنّني اكتشفت شيئا فشيئا أنّ حاضرة البلديّة التي في مخيالي وكلّ مشاعر التحفّز الطبقي ليس لها ما يبرّرها فالمرسى لم تعد مرسى الأعيان بل هي محاطة بأحياء شعبيّة من كلّ جوانبها لا تختلف عن الحيّ التي انتقل منه كلّ صباح بالنقل العمومي لأزاول عملي في التثقيف العمومي الذي لا يؤمّه من يعتبرون دُورَ الثّقافة للبوبيلاس وليس للنّخب الكلاس.
خلاصة القول في هذا التقديم أنّ ما بقي من البلديّة أمران الأوّل هو الأصل التّجاري الذي يوظّفه سياسيّا بعض النّخب الثقافيّة المنسلخة وأصحاب المصالح، والثّاني هو ما ترسّخ في لاشعور الطّرف المقابل من استبطان الشّعور بالدّونيّة الطبقيّة والجهويّة والصّورة الذّهنيّة عن الآخر وتمثّله للذّات.
هذه مقدّمة ذاتيّة لتحليل تمثّل الأستاذ الصّديق الأمين البوعزيزي في نصّه الأنيق عن تسفيد مورو –مترشحون على السفود (3)–
وفي إطار التفاعل الثقافي لا السياسي الحزبي مع نصّه أودّ أن أشير إلى الخلط بين العاصمة والحاضرة بل بين ربض المدينة وحاضرتها حيث سكن أهل المدن الدّاخليّة ربض المدينة منذ قرون وأصبحوا من أهل الحواضر، والأستاذ مورو من هؤلاء الرّبضيين فليس هو من أعيان البلد الميسورين ولا من العائلات المخزنيّة القريبة من السّلطة ولا من العائلات الأرستقراطيّة وأحفاد وجهاء الخطط الدّينيّة، أبوه قهواجيّ وأمّه خياطة وعاش الفقر المدقع والتّهميش.
لكن حتّى لو كان من البلديّة على المدلول التّاريخي الحرفي فهل كان ذلك سيكون معيبا في حقّه وهل نسقط عليه ما وقع من أمر الإمام بن عرفة مع مشائخ الحاضرة، ألم يكن من هؤلاء المشائخ ونخب الحاضرة مناضلون وطنيّون؟ ألم يكن الشيخ الفاضل بن عاشور من مؤسّسي الاتحاد العام التونسي للشّغل ومن زعماء اجتماع ليلة القدر الذي طالب بالاستقلال؟… قد نفصّل في هذا لاحقا، لكن العبرة هي ضرورة التحرّر من رواسب الفرز الجهويّ والعائلويّ لصالح الفرز الطّبقي الواعي الذي يشقّ كلّ الجهات والعائلات والمناطق.
المتخيّل عندما نسقط سياقات الماضي مهما كانت رواسبه على الحاضر بكلّ تعقيداته، عندما نعقد مقايسة بين أجداد مورو المزعومين الذين أقصوا الأمام بن عرفة الجدّ المفترض للدّكتور المرزوقي، ومنافسة رئاسيّة لها منطقها وملابساتها لعلّ صراع البلدية والأفاقيين أحد أبعادها الخفيّة، لكن حشر مورو في هذا الفرز لتقديمه في صورة البلدي حفيد البلديّة المخازنيين مقابل المرزوقي حفيد ابن عرفة الأفاقيّ فيه مغالطة تاريخيّة فضلا عن افتعال سرديّة مظلوميّة عناصرها لا تنطبق على المعني بالتّسفيد، فلنتحدّث عن الأطراف المتعيّنة في الصّراع دون توسيع الدّائرة لتشمل جهات وعائلات وعروشا واعراقا، لو فتحنا هذا الباب لن نسلم من التّوظيف والإسقاط وإثارة النعرات والعصبيّات.
قد لا يكون مورو مؤهّلا لرئاسة البلد أو قد لا يكون أكثر أهليّة من غيره لكن ليس للاعتبار المذكور في تدوينة الأستاذ الأمين فالرّجل مكافح بل هو نمودج لقصّة نجاح وارتقاء لدرجات السلّم الاجتماعيّ بنضال ذاتيّ مصعده الوحيد الكسب المعرفي في المدرسة العموميّة مدرسة عموم أبناء الشّعب.
مورو السياسي كذلك صورة متخيّلة لا تخلو من تنميط ومغالطة ساهم فيها بعض رفاقه في الانتماء الحزبي، حيث يسوّقون أنّ الرّجل لم يعرف عنه شدّة مع السّلطة الحاكمة وكان نزّاعا للمصالحة والسّلميّة بل تفصّى من رفاقه وتبرّأ منهم عند الشّدائد وهي كلّها أحكام معياريّة مجانبة للوقائع حيث لم يسلم الرّجل من الملاحقة والهرسلة والتضييق منذ انتمائه السياسي إلى أواخر أيّام الثورة وعرف السجن والمنفى والمنع من السّفر والتضييق في الرّزق والتشويه الذي طال حياته الخاصّة في غرفة نومه وهو ابتلاء ما بعده ابتلاء لرجل متزوّج وأب لعائلة.
أمّا تخاذله عن نصرة رفاقه في النّضال فكلام مردود لأنّ الرّجل كان في خلاف مع كثير منهم حول منهج التغيير وكان معارضا للصّراع الصفري مع النّظام ورافضا للمواجهات الشّاملة التي أفضت للانفلاتات العنفيّة، لم يخذل الرّجل أصحابه بل خدلوه بخطط لم تقم على الحكمة ونضج العقل السياسي وأفضت إلى ما أفضت إليه من تدمير أجيال من الشّباب وتحطيم حياتهم الاجتماعيّة وجعلتهم يعيشون على أمل تعويضات كانت مثار ترذيل واتّهام ليعيدوا بناء مسار حياة كريمة، واللافت أنّ كلّ المسائل التي عابها عليه رفاقه واتّهموه بها كانت مضمون مراجعات ونقد ذاتيّ في اللائحة التقييميّة المنشورة للمؤتمر العاشر.
في الخلاصة النّقاش يتعلّق منذ البداية بمعطيات تاريخيّة عامّة تخصّ البلد معطيات وخاصّة تتعلّق بالبورتريه المرسوم لصاحبه، ثلاثة أرباع ساكنة الحاضرة من الأفاقيين، وثلاثة أرباع مشائخ الزيتونة من الأفاقيين، هذه ليست مسألة تأويليّة بل حقيقة تاريخيّة، مورو رجل مكافح من عائلة بسيطة وليس حفيد المخازنية والارستقراطيّة الدينية التي واجهت مقام سيدي الإمام ابن عرفة الورغمّي إمام تونس قاطبة في عصره بتعلّة أنّه أفاقيّ.
أما الاعتبار الإقليمي والدّوليّ فهو إعادة إنتاج لسرديّة الفوبيا التي وجّهت مواقف النّهضة وخياراتها السياسية نحو توافقات مخلّة وكانت سببا لابتزاز خصومها لها وترذيلهم لسياساتها في نفس الوقت عندما استجابت للإكراهات التي فرضت عليها، والمرزوقي لا يقلّ عنه استهدافا بهذا العنوان لأنّ المستهدف ليس الإسلام السياسي بل الدّيمقراطيّة. والمسار الثوري الثقافي السياسي يحرّرنا من ماقبليات السياسي الثقافي وهواجسه ورواسبه ومتخيلاته والصّور الذهنية الجاهزة التي تحكم نظرته للواقع وشخوصه وللبلد ومستقبله.