قراءة في سياقات ودلالات ترشيح الأستاذ عبد الفتاح مورو للرّئاسيات التونسية
بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
ضجّت المواقع الاجتماعية العربية مشرقا ومغربا بالتعليق على ترشح الأستاذ عبد الفتاح مورو ترشح للرئاسة التونسية، كأنما أربك هذا الحدث حسابات كانت تؤسس على خلاف ما حصل.
وتوزّعت الآراء -تقريبا- كالتالي:
- مباركة الترشح والتحمّس له والتعبير عن السرور به،
- تسجيل الحدث دون اتخاذ موقف محدّد منه بالقبول أم بالرّفض،
- معارضة الترشح واعتباره قطعا لا يحتمله الوضع التونسي بالنظر لسياسة التوافق التي انتهجتها حركة النهضة التونسية وساهمت في استقرار الوضع.
- رفض الترشح من زاوية أنه ليس أفضل المترشحين وأنه سيقطع الطريق أمام مترشحين وازنين آخرين، ويشتت أصوات أنصار الثورة،
- مناهضة الترشح من زاوية تقدير مصلحة واعتقاد أن وصول “الإسلام السياسي” إلى الحكم سيؤدي لانقلاب مشابه لما حدث في مصر سنة 2013.
- معاداة الترشح لسبب أيديولوجي استئصالي، يعتبر أن حاملي الفكر ذي المرجعية الإسلامية يجب أن يستأصلوا.
- وهذا الموقف الأخير هو أقرب للبرغوث الإلكتروني الذي يدور في فلك الصهاينة العرب منه لرأي مؤسس على دراية وتدبير.
وليس غرض هذه المقالة الترجيح بين هذه الآراء مطلقا، بل الهدف هو إثراء النقاش الدائر بطرح نقاط وزوايا نظر مختلفة على طاولة التفكير، ويبقى القارئ والنّاخب هو سيّد الموقف في ترجيح هذا الرأي أو ذاك.
السياق العام للوضع السياسي التونسي:
ما فهمته خلال متابعتي للوضع التونسي منذ سنوات طويلة هو هذا: نحن في تونس أمام وضعية فريدة من نوعها في البلاد العربية: منظومة سابقة لا تريد الانسحاب وترهن ذهابها بأمن تونس القومي، ومستعدة لتفجير نفسها في وجه كل من يحاول تفكيكها، مستقوية بذلك على التونسيين بعلاقات دولية مهادنة، لخصها الرئيس السابق في لحظة غضب وصدق نادرة: “المسؤول الكبير”، أي أن تونس يتحكم فيها “مسؤول كبير لن أقول لكم من هو”، وأداته في ذلك بقيا الدولة العميقة.
إلى ذلك ينضاف سياق آخر، هو عداء أيديولوجي علماني غريزي، أصبح رافدا للدولة العميقة ومنصة لنسج الأوهام الأيديلوجية وترويجها عبر إعلام متلهّف لإشعال نيران البغضاء بين التونسيين في كل مناسبة، مع نقابة عمالية متناغمة مع الطرفين، ومستعدة هي الأخرى لتفجير حزامها الاجتماعي الناسف، إذا لم تحقق المطالب الاجتماعية التي تخول للنقابة الظهور بمظهر المدافع الشرس عن العمال، وحامي حماهم.
إلى ذلك ينضاف سياق آخر هو شعور قسم كبير من التونسيين بالغبن رغم حضور الدولة بقوة في وعيهم الجمعي، لأن الدولة تنظر إليهم نظرة دونية، خصوصا سكان الجنوب وسكان المناطق النائية عن السواحل. وقد ورثت الدولة التونسية الحديثة هذه النظرة عن حكام البابات السابقين، الذين كان الكثير منهم ينظر للسكان المحليين البعيدين عن المدن نظرة استعلاء واحتقار (بلدي – ريفي)، لما كان لهذه المناطق من ثورات أقضت مضجع الحكام على مر الأحقاب، من بينها ثورة علي بن غذاهم في القرن التاسع عشر. وكان لهذا التهميش أثره العميق في ثورة الربيع العربي سنة 2011، إذ كان أغلب الجرحى والشهداء من المناطق المهمشة، وانكشف كذب وزيف الدولة الحديثة التي كانت تمارس التمييز بين أبناء الوطن الواحد تحت الاستبداد.
أمام هذا السياق، مطلب الشعب التونسي هو فك الاشتباك الأيديولوجي وفتح الملفات الاستحقاقية لبناء الدولة والتنمية الحقيقية وطي صفحة الاستبداد والتخلف والجهل، ومباشرة عهد دولة المواطنة والتقدم والرقي، على غرار بقية الشعوب.
لنضع في أذهاننا هذا السياق، ولنتدارس الآن الأوضاع ودلالاتها في علاقة بترشيح الأستاذ عبد الفتاح مورو. هذه الأوضاع يمكن قراءتها من زوايا عدّة، وستعيننا على تفكيك مختلف الجوانب وإعادة توليفها، وأجملها في النقاط الآتي ذكرها:
أوّلا: الوضع التونسي تطوّ ر شيئا فشيئا:
ربّما لا يشعر كثير من التونسيين بالأمر، إلا أنّ تونس سنة 2019 تغيّرت كثيرا عما كانت عليه سنة 2011 غداة الثورة. البهتة التي أصابت الجميع بحدوث ثورة تم استيعابها باقتدار، وصعوبات المجلس التأسيسي انتهت بدستور جديد قبل به الجميع رغم كل شيء، والاغتيالات السياسية لشكري والبراهمي وتوظيف الإرهاب أمور اتضحت بشكل كبير، وفهم التونسيون من يقف خلفها ولماذا، واستوعبوا مدى عنف قوى الرّدة والجذب إلى الخلف، ولماذا تريد الإمارات والسعودية قتل التجربة التونسية في بيضتها…
كل هذا وغيره كثير استوعبه قطاع واسع جدا من التونسيين وصاروا يفهمون تشابكاته الظاهرة والخفية، ولقد ساهمت الحرية الإعلامية في تونس في إتاحة الفرصة للرأي والرأي المخالف، كما ساهم الإعلام البديل -ومنه فيسبوك- في ترسيخ رواية مختلفة عن الروايات العمومية حول الأحداث. هذا المعطى التطوّري في تونس يجب وضعه في الميزان. فالذين كذبوا على التونسيين حول الاغتيالات السياسية لم يعد باستطاعتهم إعادة الكذب وهم يَرَوْن من كان يمشي في الجنائز متهما اليَوْم بالمشاركة في القتل.
ثانيا: الوضع الجزائري والليبي والسوداني يتجه رويدا لقلب الموازين:
ربما يتجنّب كثير من التونسيين ربط الأحداث ببعضها البعض حرصا على عدم الخلط، لكن الإرث التاريخي له حكمه، وحدود الدول ليست حدودا ممنوعة على الفكر والتجارب البشرية! فالجزائر وتونس وليبيا تمثل وطنا واحدا متجانسا، كانت تحكمه حكومة واحدة أو تحت تأثير حكومة واحدة طيلة أكثر من ألف سنة، ولم يتم الفصل إلا بعد الاستعمار الأوروبي. ثم أن الجزائر هو في حقيقة الأمر أول بلد وقعت فيه كارثة الربيع العربي المبكر، بانقلاب ظالم على نتائج انتخابات شعبية، مما تسبب في ربع مليون ضحية في سنوات الجمر في التسعينات. ومن مفارقات الزمان العجيبة، أن بن علي، دكتاتور تونس سيّء الذكر، استغل أوضاع الجزائر سنة 1991 للتنكيل بالشعب التونسي بشكل منهجي، وكان يحاول إخفاء جرائمه بأخبار الخطف والقتل التي كانت تصل من الجزائر بشكل مرعب.
ولقد تبين أن أشدّ أنواع البطش التي مارسها بن علي كان خلال عشرية الجمر في الجزائر، وأن الشدة خفّت بعد انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ونهاية العنف. وينبغي أن نعي أن سببا من الأسباب الرئيسة لاستقرار تونس هو دور الجزائر، إذ كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة طيلة الفترة المنقضية حريصا -لأسباب كثيرة- على بقاء الأوضاع هادئة في تونس. ومنذ أشهر، هبّ الشعب الجزائري مطالبا بنفس المطالب التي طالب بها التونسيون في ثورتهم سنة 2011 والتي لا تختلف جوهريا عن مطالب الشعوب العربية كلها: دولة مدنية حديثة ومؤسسات ممثلة ومعبرة عن إرادة الشعوب، وانتخابات حرة، وتأسيس الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. هذا الوضع الجزائري المتحرك، جعل قوى الدولة العميقة الجزائرية تشعر بأنها أمام تيار شعبي هادر ومصمم هذه المرة، ولا مجال للمراوغة الكثيرة. كما بدأت القوى التقليدية المهيمنة تفقد مواقع مهمة في مفاصل الدولة الجزائرية. وهذا كله يصب في مصلحة الشعبين الجزائري والتونسي، فلم يعد الجار الجزائري سوى ذلك الأخ الذي يطالب بنفس المطالب، مما يسهل التفاهم والتآزر والتلاقي على مصلحة واحدة مشتركة، هي تحقيق الاستقلال الحقيقي ووضع اليد على الثورات الطبيعية لاستغلالها في تنمية البلاد وعيش العباد، وهذا هو جوهر المطلب في البلدين الأخوين.
أما على المستوى الليبي، فالدعم الغربي المفضوح، ودعم صهاينة العرب لحفتر بشكل علني، يؤشر على مغامرة خطيرة جدا، سقط ضحيتها ألوف الليبيين، ويتحمل مسؤولية ذلك جميع الذين لا يريدون لليبيا خيرا. كما أن السودان تتعرض هي الأخرى لمحاولات طمس حراكها الشعبي، بنفس السيناريو المتمثل بالإفساد بالمال وشراء الذمم بطريقة علنية هذه المرة، نظرا للغطاء الدولي المفضوح لهذه العمليات، والخوف من حصول الشعوب على حقها في تقرير مصائرها وثرواتها وحقوقها في الحرية والكرامة. وبذلك اتضحت الصورة أكثر أمام كل صاحب بصيرة.
ثالثا: كلفة الانقلاب العسكري المصري سنة 2013 باهظة جدا:
كثيرا ما يردّد الناس التجربة المصرية ويقدّمونها على أساس أنها البعبع الذي يخيف الشعوب ويجعلها تستكين وترضخ. وفي حقيقة الأمر، لو تم تتبع الانقلاب المصري اللعين وحصيلته اليوم بعد ست سنوات من وقوعه، سيجد أن الاتجاه العام في مصر وفي العالم هو أنه انقلاب مكلف جدا وباهظ الثمن على من قاموا به، وأنه بدأ رويدا رويدا ينقلب السحر على الساحر. فرقعة معارضة رأس الانقلاب تتوسع يوما بعد يوم. ومزاعمه في محاربة الإرهاب تكشفت للقريب والبعيد من خلاله حملاته الإعدامية للشعب المصري الأعزل من دون عدل ولا قضاء، وتنكيله بثمانين ألف من المعارضين من كل الأصناف، وتكميم الأفواه حتى على الذين قاموا بمساعدته للوصول إلى السلطة، مع عمالة مفضوحة لفائدة العدو التاريخي لمصر، وتبجح الصهاينة بأن نظام مصر في خدمتهم وتأكيد رأس الانقلاب لذلك من دون مواربة أو تشكيك. فإذا أضفنا لكل ذلك الفشل الاقتصادي الكبير للانقلاب، والتفويت في مصالح مصر العليا من خلال ترك إثيوبيا تتصرف في مياه نهر النيل كما يناسبها، وإذا أضفنا لذلك الفشل الذريع لصهاينة العرب في اليمن، وفشلهم الذريع في سورية، وفشلهم الذريع في لبنان وفي كل مكان وضعوا فيه المليارات والإمكانيات، ليس من الصعب أن نفهم أن إعادة التجربة المصرية في تونس أو السودان أو الجزائر أو ليبيا ليس بالأمر الهين، وأكبر دليل الدعم العالمي منقطع النظير للعميل المتصهين حفتر، الذي لم يستطع حتى الساعة سوى قتل الأبرياء والمواطنين العزّل، وفشل في تحقيق أحلام السفهاء في السيطرة الكلية على نفط ليبيا وأراضيها الشاسعة. كما استوعب الناس بشكل جيد من هو العدو ومن هو الصديق، باستثناء أولئك الذي أعمتهم الأيديولوجيا أن يروا الأمور على حقيقتها. من هنا، فإن التلويح بانقلاب في تونس على غرار ما وقع في مصر، تلويح تخويفي كاذب، لأنهم لو قدروا أن يفعلوه لفعلوه بدل أن يخيفوا به، ناهيك أن جيش تونس تأقلم مع الوضع الديمقراطي الجديد، وأبدى أداءً رائعا وأعطى درسا من أجمل الدروس في التاريخ لاستقلالية مؤسسة الجيش وابتعادها عن الانجرار وراء صبيان وغلمان القوى الأجنبية المتربصة.
رابعا: الدولة العميقة في تونس غير قادرة على إعادة الوضع التونسي إلى ما كان عليه زمن بن علي أو بورقيبة
إن الدولة العميقة في تونس أدركت الآن بعد فشلها الذريع في محاولة تفريخ الدواعش، وفشلها الذريع في بث الفتنة التي احتواها الشعب التونسي بوعيه الراقي، وفشلها الذريع في الاغتيالات السياسية، وفشلها الذريع في منطق الأرض المحروقة، أنها لا يمكنها مواجهة شعب على درجة من الوعي، لكنها تستطيع كسب بعض المربعات، مستقوية بوضع دولي معاد للديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وسبب فشلها الأساسي أنها وجدت حركة سياسية شعبية أمامها، مستوعبة للتناقضات، ومستعدة للتأقلم بسرعة فائقة مع المتغيرات، وساهمت الحرية الإعلامية في اطلاع الشعب التونسي عليها مباشرة، من خلال الأداء الفعلي، ومقارنته بأداء بقية القوى السياسية على الساحة. وانتهى الأمر باعتراف صريح من طرف عديد القوى المناوئة للثورة بأن حركة النهضة حركة تونسية جادة، ومتجذرة، ولها قدرة على التأقلم وخاصة أنها صادقة في حمل عبء استقرار البلاد وأمنها وسيادتها. كما فهم قطاع كبير من الشعب التونسي هذا المعطى، فمنذ خمس سنوات وهو يراقب العمل الحكومي والنيابي، ويدرك جيدا من هو حريص على مصلحة البلاد ممن هو متنطع يبحث عن فرصة لنهش المزيد من المصالح. كما أن الظواهر الشعبوية التي تزداد حدة في الوقت الحالي، تشير إلى عملية غسيل دماغ يقوم بها إعلام لا وطني، متورّط في التحزّب الأعمى، وتعمل فيه أبواق وأقلام مأجورة، تروج للثورات المضادة والقوى الخارجية التي لا مصلحة لها في استقلال القرار التونسي. وتقييم هذه القوى بشكل موضوعي يدل على عدم قدرته على الرجوع بتونس إلى الخلف، فالناس ذاقوا حلاوة الحرية وانتشوا بها جدا، وليس من السهل حرمانهم بعد أن افتكوا هذا الحق، كما أن أغلب رؤوس الدولة العميقة في تونس من ذوي الجنسيات المزدوجة، وهم على استعداد للفرار إلى البلدان الغربية إذا تم تهديد مصالحهم الحيوية.
خامسا: الوضع الداخلي لحزب النهضة لم يعد يحتمل مرشح من خارج الحزب
توجد تيارات كثيرة صادقة مخلصة، وحاملة لهموم الثورة وحالمة بالانتصار لها، بدأت بالتشكل على نفس القاعدة الفكرية لحزب النهضة. هذه التيارات، شدّت إليها شرائح شبابية كثيرة ضاقت ذرعا بتكتيك حركة النهضة ولعبها على التوازنات القائمة، خصوصا بعد التجربة الانتخابية السابقة، التي تبين فيها أن الأداء كان متوسطا إلى أبعد الحدود، مع نزول حاد في قيمة العملة المحلية، واستفحال المشاكل الاجتماعية، وتهميش الناس في القرى والأرياف والمدن البعيدة عن السواحل. فبما أن الأداء الحكومي الذي شاركت فيه النهضة لم يكون بذلك البريق الساطع، وبما أن الثورة التونسية تعرضت لتضييق كبير من طرف حليف النهضة السابق، نداء تونس، الذي عرقل الكثير من القوانين والإصلاحات الحكومية مراعاة لمصالح الدولة العميقة التي هو أحد ورثتها، فهذا الوضع إذن لم يعد يسمح بتاتا بدعم مرشح توافقي في هذه المرحلة. من هنا، يبدو لي أن إجماع مجلس الشورى رجّح مصلحة التكتل الداخلي حول شخصية وازنة لها مقبولية داخليا وخارجيا هي شخصية عبد الفتاح مورو. فبعد هذا الترشيح، تأجل نقاش التوافق إلى الدور الثاني من الانتخابات، وتم تجميع أصوات النهضة حول شخصية واحدة، لكي يعرف كل حزب وتيار وزنه الحقيقي في الساحة الانتخابية. وعلى أساسه يتم فرز التوافق.
سادسا: اللجنة المستقلة للانتخابات تحت المحك هذه المرة
في انتخابات سنة 2014، رغم القدرة على الإدارة والضبط والتسيير والتسويق، ظهر جليا أن هنالك أمر ظلّ في غمرة الأحداث نقطة سوداء في الانتخابات التونسية وهو ما سمي بـ: تصويت الموتى. وهي مفارقة كبيرة أن يقوم الموتى بالتصويت، لكن ثبت أن أرقاما لبطاقات التعريف أو الهوية تعود لأشخاص ماتوا تم استخدامها في الانتخابات الفارطة. وتم تبرير هذا بكون القوائم الانتخابية التي تم استخدامها كانت قديمة تعود إلى فترة النظام السابق، لكن سكوت الإعلام التونسي حول هذه النقطة كان مفهوما، لأن الإعلام التونسي في غالبيته تحت سيطرة التيارات البورقيبية واليسارية المناوئة للثورة التونسية، ولذلك لم يأخذ هذا الموضوع حظا كافيا من النقاش والتأكد حينها، وخصوصا معرفة ما إذا كان عدد هذه البطاقات المستخدمة مما يغير نتيجة الانتخابات أم لا. ولقد اعترف الرئيس الراحل باجي قايد السبسي أن جميع الانتخابات التي تمت منذ بداية الاستقلال حتى الثورة كانت مزورة، بما فيها تلك التي أشرف هو نفسه عليها. وهذا اعتراف مسجل ومعروف. ولا أملك أي معطيات بعد الثورة بهذا الصدد، لكن هذا الأمر يحتاج من المجتمع المدني التونسي يقظة كبيرة جدا، لأنه لو ثبت أدنى تلاعب، فالعملية برمّتها ستكون محل شكّ. وإذا قبل الناس تزوير الوعي عبر الإعلام، فإن القبول بتزوير الوعي ومعه تزوير النتائج سيدمر كل المنجزات التي ناضل من أجلها الشعب التونسي طيلة عشرات السنين.
سابعا: القوى الدولية ستدعم من يخدم مصالحها الاستراتيجية أو يغض الطرف عنها
لن يكون من المفاجئ أبدا أن تقف الجهات المؤثرة على الوضع في تونس موقفا مساندا لبعض الشخصيات، بناء على تقديرها الخاص أن ذلك الشخص سيخدم مصالحها. وإن لم تجد شخصا يخدم مصالحها، الخطة التي تليها هي التعامل مع شخص لا يهدد مصالحها ويغض الطرف عن ذلك. ولقد استوعب الناس بعد قرابة عشرية كاملة عن تاريخ بداية الربيع العربي، أن القوى الدولية لها مصالح اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية حريصة عليها، وتريد لهذه المصالح أن تتواصل، بشكل أو بآخر. من هنا، كان غالبية حكام العرب من المستبدين الظلمة، الذين وصلوا إلى الحكم بطريقة غير شرعية، لأن ذلك هو الأسلوب المتبع في العلاقات الدولية، ويسهل التعاطي مع الدكتاتور أسهل بكثير من التعاطي مع الذي ينتخبه الشعب. فالدكتاتور يأمر وينهى ولا رقيب عليه. أما المنتخب من طرف الشعب، فالرقابة كل خمس سنوات… وهنا فرق شاسع جدا بين التعاطي مع الإنسان المنتخب والتعاطي مع المستبد المنقلِب.
ثامنا: لو حضر منطق العمل المشترك، لا يستبعد وصول مورو والمرزوقي إلى الدور الثاني
بالنظر كل المعطيات المتوفرة ونتائج سبر الآراء، وطريقة تعاطي الناس مع الانتخابات، والخيبة العامة التي يظهرها التونسيون تجاه التجربة السابقة، لو تعاون أنصار الثورة، لأوصلوا شخصيتين بارزتين إلى الدور الثاني، هما عبد الفتاح مورو والمنصف المرزوقي. فليس هذا مستحيلا في ظل وعي متنام للتونسيين، وتقارب كبير في الرأي بين عدد غفير من المترشحين. ما يمنع أنصار الثورة من العمل المشترك هو الأنانية والنرجسية المفرطة التي طغت على النفوس، وغياب التفكير في المصير المشترك، والعمل المشترك وفن التفاوض وفن إدارة المعارك الانتخابية في نظام ديمقراطي حديث. مازال الناس في منطق الأنا، ومنطق امتلاك الحقيقة المطلقة، ومنطق أنا ومن بعدي الطوفان، ومنطق الحصول على مجد شخصي لمدة ربع ساعة. وحمل المبادئ الثورية ليس كافيا، توجد أخلاق ثورية أيضا، تلزم أصحابها بالتراجع وترك المجال لمن هو صاحب الحظ الأكبر، كما تلزم الأخلاق الثورية حامليها من القادة أن يعملوا على نشر ثقافة التعاون والتآزر والنجاح المشترك، وهي ثقافة غائبة في الوقت الحالي.
تاسعا: تونس تعاني من تفسخ أخلاقي كبير وانهيار خطير للقيم الروحية
لا يتعلق الأمر ههنا بالحديث عن سلوك الناس في بيوتهم وفي مقراتهم الخاصة المغلقة. أتحدث ههنا عن ظاهرة في الشارع، أمام مرأى ومسمع الجميع. كما لا أقول أن هذا الأمر يمارسه أغلبية التونسيين، كلا. لكن يكفي أن تكون حبّة طماطم فاسدة لكي تفسد صندوقا بكاملة.
إن الشعب التونسي في أصوله الثقافية، مع استثناء الشاذ، شعب يقدر الكبير، ويقدر صاحب العلم والمعرفة، ويعطي قيمة للحياء والأخلاق والستر، ويراعي الروابط والذوق، ويتجنب الفحش والفجور، ويبغض الإمعان في الخروج عن سياق الحشمة. إلا أن جولة بسيطة في شوارع المدن الكبرى والمتوسطة، وجولة سريعة في بعض القرى، تكفيان لمشاهدة عكس هذه القيم المحلية، فلم يعد الخمر يثير اشمئزازا، ولم تعد المخدرات مسألة بعيدة الوقوع، والعنف الدموي في الأسر وخارجها صار حديث كل يوم، والعلاقات صارت مفتوحة على كل أنوعها تحت مسمى الحرية الشخصية، واللباس حدث ولا حرج، والكلام البذيء والجارح، مع ضعف واضح للوازع الروحي، وقلة العناية بلغة البلد وثقافته وتاريخه، ولقد سألت فتيانا عن تاريخ تونس ففوجئت أنه لم يعلق بنفوسهم شيئا رغم وجود البرنامج. كما أن ظواهر أخرى مخيفة وغريبة بدأت تظهر، من قبيل ضرب الآباء، وسوء معاملتهم بما يتجاوز العقوق إلى الجريمة التي أشد منها.
أما عن الأسباب العميقة، فقد تعرض الشعب التونسي لهزّتين ثقافيتين كبيرتين في الثلاثين سنة الماضية، سببتا هذه المأساة الأخلاقية:
الهزة الأولى: تعرض لها الجيل الذي تربى في محاضن المستبد الطاغية بن علي: أعمارهم اليوم بين العشرين والأربعين، وهم الذين تعرضوا لعملية سلخ منهجي من أصولهم وثقافتهم ومعتقداتهم تحت ما سمي: خطة تجفيف الينابيع. هذه الخطة معروفة ومنشورة ولم يحاسب عليها أحد ولم يفتح هذا الموضوع أحد، وكانت النتيجة ما ذكرناه أعلاه من ظواهر خطيرة تهدد تماسك المجتمع.
الهزة الثانية: بعد الثورة مباشرة، مع تحرير الإعلام، استحوذ الإعلام الموجه والموجّه على الساحة، وفرض على التونسيين نمطا جديدا من البرامج، لم يعهدوها من قبل، جعلتهم يقبلون في وعيهم الجمعي ما لم يكن مقبولا في السابق، ويرتضون ما لم يكونوا يرتضونه فيما مضى، حتى على مستوى اللغة، فلا يترك هذا الإعلام جملة بالعربية إلا ويحشوها بكلمات وتراكيب من لغات أجنبية، لفرض واقع لغوي جديد ثم المطالبة باحترامه فيما بعد.
فإذا أضفنا لكل هذا حصاد ما خلفته الفترة البورقيبية التي شهدت علامات مؤسفة ميزتها ازدراء الدين والاستخفاف بالرسول وغلق الزيتونة، والتنصل من كل ما يمثل جوهر الانتماء الروحي والقيمي للتونسيين، نفهم سبب انتشار الغلو والتطرف في كل الاتجاهات، سواء منها الدينية، أو العلمانية، كما نفهم كيف أن الغلو التديني الموظف صار ذريعة لمحاربة الدين نفسه في حلقة جهنمية مفرغة، وقع في حبائلها عدد كبير من الشباب ذهبوا ضحية جهلهم بألاعيب القوى المعادية، يدفعهم الحس الديني البدائي الساذج.
الآن، بدأ التونسيون يعون حقا خطورة التفريط في القيم الروحية الإسلامية التي شكلت صمام أمان للتونسيين منذ خمسة عشر قرنا. وذلك للأمن الثقافي والحضاري، بعيدا -كل البعد- عن التوظيف السياسي لهذه الموضوعات.
عاشرا: ثروات التونسيين الطبيعية والبشرية
منذ بداية الثورة التونسية إلى اليوم، توجد شبه مناطق “محرمة” لا يتناولها التونسيون إلا عرضا أو في نقاشات جانبية في المواقع الاجتماعية. من هذه المناطق المحرمة أذكر: مسألة الثروات الطبيعية التونسية التي تذكر بعض التقارير أن الأجانب ينهبونها نهبا من دون رقيب ولا حسيب، خصوصا ثروات النفط والغاز وبعض الثروات المعدنية الباطنية.
وأمام غياب المعطيات الحقيقية، وأمام غياب إرادة سياسية واضحة في هذا الشأن، وأمام تزامن محاولات لفتح ملفات الثروات التونسية مع وقوع وفيات غير مفهومة واغتيالات سياسية، انتشر بين الناس اعتقاد بأن جهات معينة بصدد الانتفاع باطلا بثروات التونسيين، دون رقابة الدولة وعجزها عن التحكم في هذه الملفات التي سيطرت عليها عصابات متخصصة. هذا الموضوع يتحاشاه الإعلام الذي تسيطر عليه أذرع الدولة العميقة واليسار الانتهازي المتحالف معها في النقابة وفي الأحزاب السياسية.
إن هذه المسألة الحساسة باتت تمثل أرقا حقيقا لأنصار الثورة، لمعرفة حقيقة الأمر بالأرقام والإحصائيات الرسمية.
وطالما لم تقدم الجهات السياسية النافذة على حل هذا الغموض بتبيان الحقائق كما هي، ستظل المزايدات الثورية بين هذا الطرف وذاك، كما ستزيد التجاذبات السياسية التي تحمل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك.
غير أن ثروة أخرى لا تقل أهمية هي الثروة البشرية بصدد الاستنزاف حاليا. فنسبة مخيفة من الأساتذة والمتخصصين في شتى العلوم يغادرون تونس تباعا للاستقرار في بلدان غربية أو بلدان نفطية تغريهم برواتب مرتفعة.
وهذا النزيف هو أخطر من نزيف الثروات الطبيعية، لأن المجتمع دفع أموالا طائلة جدا لتكوين وتدريب وتخريج هذه الكفاءات البشرية، ثم تذهب تلك الكفاءات تسدي خدماتها لبلاد أخرى لم تدفع من أجلهم قرشا واحدا. هذا الصراع المحموم على العقول ينبغي أن يكون في جوهر النقاش العام بين التونسيين، لأنه من دون أدمغة ومعرفة ودراية لا تنفع ثروات، والأمثلة أمامنا شاهدة.
الخلاصة العامة:
في نهاية هذه القراءة، يحق لكل إنسان أن يتساءل: هل أن عبد الفتاح مورو هو رجل المرحلة الذي يستطيع أن يستكمل عملية بناء الدولة الجديدة، دولة الحرية والكرامة والمواطنة، مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما ذكر آنفا؟
في اعتقادي الخاص، الذي سيصنع هذه الإمكانية ويجعل منها واقعا حقيقا ليس مجرد وجود عبد الفتاح مورو، بل اللقاء بين عبد الفتاح مورو والشعب الذي خرج يودع الباجي قايد السبسي والشعب الذي لم يخرج. التقاء شعب ورجل في هذه المرحلة هو الذي سيحدث الفارق. ولقد كانت أهم صورة في جنازة السبسي هي مشية عبد الفتاح مورو خلفها بجبته وعمامته الزيتونية. وكأن الأقدار تريد أن تشير إلى التونسيين بنهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. تونس تحتاج أن تنهي الصراع مع ذاتها لقد أنهكها الصراع. تونس تريد أن تنهي الشك في أصلها لقد أتعبها الشك. تونس تريد أن تكون تونس، ولا شيء آخر مطلقا.
#بشير_العبيدي ✍🏽 | 8 ذو الحجة 1440 | كَلِمَةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وَكَلِمَةٌ تَصْنَعُ أَمَلً |