مناشدة عبد الكريم الزبيدي.. سلوك يليق بالدكتاتوريات تديره مراكز النفوذ
لطفي الحيدوري
أظهرت التغطية الإعلامية المحلية والعالمية لخبر وفاة رئيس الجمهورية محمد الباجي قائد السبسي يوم الخميس 25 جويلية 2019، ثم لحدث موكب الجنازة، أنّ تونس مقبلة في وقت ما على “فراغ” يجب البحث عمّن هو جدير بسدّه.
هذا التوجيه للرأي العام، عن قصد أو دون قصد، يبدو أنّه تم التحضير للمستفيد منه منذ فترة، من قبل جهات كانت تعلم حقيقة الوضع الصحي لرئيس الجمهورية، فدفعت منذ أسابيع باسم وزير الدفاع الدكتور عبد الكريم الزبيدي وتقديمه في صورة “المنقذ”، على المنوال الذي أديرت به في السنة الأولى بعد الثورة ثم عند أزمة سنة 2013 حملة الترويج للفريق رشيد عمّار.. حملتان القاسم المشترك بينهما المجال العسكري الذي ينشط فيه الرجلان.
وقد كتبت منذ فترة افتتاحيات صحف في تمجيد الزبيدي، وتحرّك “معلّقون قارّون” في بعض القنوات الخاصة للحديث عن مناقب الرجل، مردّدين عبارة شعبوية منسوبة إليه فحواها ذمّ السياسيين والأحزاب، ركوبا على موجة اتجاه الرأي العام العازف عن الشأن العام حاليا.
وكان الزبيدي قد تجاوز واجب التحفظ في تصريح، غير مقبول من “رجل دولة” في حكومة سياسية حزبية، عندما قال في أكتوبر 2018 عند موكب تأبين شهيدين من المؤسسة العسكرية إن السياسيين الذي اختارهم الشعب “لهم مسؤولية كبرى في كل الانخرامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الأمنية بما فيها استشهاد العسكريين وأن الشعب سيحاسبهم يوما ما”.
كان من المفروض توبيخ الزبيدي على تصريحه غير المسؤول، لكن وسائل إعلام ومن يقف خلفها نفخت في ذلك التصريح واعتبرته بمثابة “الضوء الأحمر” في وجه السياسيين. وكان قبل تلك المناسبة قد تحدث بلهجة مهينة تستبطن طعنا أخلاقيا عندما قال في مجلس نواب الشعب إنّه “لا يمكنه أن يكون سياسيا لأنه لا يحسن الكذب”.
فلماذا يدفعه البعض اليوم إلى أن يكون كذّابا؟ لأنّه لا يمكن أن يصل كرسي قرطاج دون ترشيح سياسي وحزام حزبيّ.
ويدعم البعض من مناشدي الزبيدي حملتهم بما شهد به الجميع من حسن تنظيم موكب تأبين رئيس الجمهورية ومسار الجنازة وعملية الدفن وما رافق ذلك من تأمين ناجع. وهو رأي باعث على السخرية من أصحابه، إذ أصبح من شروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية في دولة ديمقراطية، القدرة على تنظيم جنازة رئيس. ولو صحّ ذلك لكان من الواجب مناشدة وزير الداخلية هشام الفراتي أيضا لدور المؤسسة الأمنية الكبير في ذلك اليوم المشهود بالانضباط شعبيّا وأمنيّا.
ومن الواجب في هذا السياق رفع التضليل الذي يروّج عن تنظيم جنازة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، التي يريد البعض اختصارها في مشهد الزبيدي إلى جانب جثمان المرحوم الباجي قائد السبسي، في حين كانت المهام التنظيمية موزعة كلّ حسب صلاحياته ومجالاته.
لقد جرى كل ما تعلق بجثمان الرئيس، من عملية نقله من المستشفى إلى قصر قرطاج، ثم رفع الجثمان من القصر إلى مقبرة الجلاز، موكولا لسيارات من الجيش الوطني مع تعزيزات في الشوارع والمسالك بمشاركة جيش الطيران وجيش البر وتأمين جوي لجيش الطيران. أمّا باقي الترتيبات من استقبال الضيوف والوفود من المطارات مع مرافقتهم ومراقبتهم والتنظيم الخارجي والداخلي، فقد كان من مشمولات وزارة الداخلية وأمن رئيس الدولة والشخصيات الرسمية، يضاف إليهما التمشيط الخارجي والتركيز الخارجي طول المسلك وتنظيم الحشود.. لم يكن هذا الأمر مجهولا، بل يراد حجب تفاصيله لتحقيق أهداف المناشدة.
ولئن عبّر الزبيدي في وقت سابق عن رأيه في الموضوع، وأنّه لم يطرح ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة ولا يرغب أن يشغل خطّة سياسية، فإنّ طبول المناشدة كانت أعلى صوتا، ووقع تأويل اللقاء الأخير بين وزير الدفاع والرئيس الراحل بأنّ قائد السبسي قد استأمن الزبيدي على تونس قبل الوداع. وقد أطلقت بعد الفراغ من مراسم الجنازة صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان “عبد الكريم الزبيدي رئيسا لتونس”، في عملية لا يخفى فيها استثمار الجنازة وعاطفة التونسيين تجاه السبسي.
لكن هذا الاستثمار يواجه عقبة كبيرة ستعود بمفعول عكسي يضعف حظوظ “رجل المناشدة”.
لقد وضعت الجنازة التي شهدها العالم في جميع مراحلها منذ الوفاة والموكب حتى الدفن يوم السبت 27 جويلية، شروطا صعبة لمن يكون أهلا لخلافة محمد الباجي قائد السبسي، ومنها أن يكون ذا تجربة تاريخية في العمل الوطني وعلى رأس عدة مواقع بالدولة وفي مراكز حزبية، وأن يكون صاحب مبادرات سياسية ووطنية، جميعها تؤهله لأن يكون قادرا على أن يكون رئيسا لجميع التونسيين ومؤلفا بين مختلف التيارات. لكنّ ما نعاينه في الأيام الأخيرة هو أنّ فئة تؤمن بحكم الفرد وتحنّ لحكم العسكر واستنساخه، تعتمد قوّة الدعاية لتوريط المؤسسة العسكرية في تخريج الرؤساء، وهو ما ليس من تقاليدها. إنّه مخطط توريط، إن لم يكن في أحد أبعاده مسعى لـ”حرق” أوراق الرجل، في لعبة مجهولة.
ولقد أظهرت تقاليد إدارة المناشدة في تونس أنّها لعبة مراكز نفوذ، كانت سنة 2010 صراعا داخل أجنحة في القصر، وداخل قوى الفساد المالي (بلحسن الطرابلسي مقابل صخر الماطري)، وآلت إلى انهيار النظام. فإذا عادت مراكز النفوذ إلى معاركها من أجل الاستحواذ على “رمز” أو “فرد” فإنّ تضارب المصالح سرعان ما سيطح به في أوّل مؤامرة يدفع إليها.
وقد نجح الباجي قائد السبسي عندما أفلت من استدراج اللوبيات، فخيّب آمالهم واختار التوافق لاستقرار البلاد وأمنها. وكأنّ سيناريو حملة التخويف سنة 2014 أثناء التحضير للحملة الانتخابية يعود من جديد، بآليات استدرار العواطف والغش والتضليل وتزييف إرادة الناخبين.
ومن أبرز عناوين التضليل منذ نهاية الأسبوع المنقضي، نسبة نجاح يوم الجنازة لفرد، وقد كان يوما للشعب التونسي عبّر فيه بتلقائية وتنظيم فريد عن وحدته وتقديره لمن صنع الاستقرار السياسي وتوازن القوى في البلاد. ولم يكن يوم الجنازة فرصة للركوب إلى المستقبل، بل كان بحقّ يوما من ثمار الثورة ودّع فيه السياسيون والشعب رئيسهم صفّا واحدا منذ خروج الجثمان من القصر حتى القبر، مستذكرين رئيسا عجوزا اختطف فجرا سنة 1987 واتخذ رهينة حتى الموت ودفن في مشهد مهين، وخليفته الذي خرج من قصره فارّا يخشى شعبه الثائر.
24/24