موت رئيس في بلد ديموقراطي
مهدي مبروك
تُوفي الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، قبل انتهاء عهدته بنحو ثلاثة أشهر، وفي اليوم الذي كانت فيه بلاده تحيي الذكرى 62 لإعلان الجمهورية وإلغاء الملكية. لقد حضر السبسي، رحمه الله، تلك اللحظة الفارقة في تاريخ البلاد التي اختارت فيها إلغاء الملكية، وكان شاهدا عليها، فهو أحد السياسيين المخضرمين الاستثنائيين الذين عايشوا النظام الملكي في تونس، فلقد كانت عائلته مقربة جدا من الأوساط المخزنية، كما أنه أدرك الاستقلال سنة 1956 شابا، وساهم من مواقع حكومية متقدّمة في بناء الدولة الوطنية، حتى إذا انتقلت السلطة إلى بن علي سنة 1987، كان أيضا أحد الوجوه البارزة في ذلك النظام، فقد تولى رئاسة مجلس النواب، قبل أن يختفي من المشهد السياسي، ويتفرغ للمحاماة. ثم قذفت به الثورة مجدّدا إلى حلبة العمل السياسي، ليترأس أول حكومة بعد الثورة، بعد أن أجبر الثائرون محمد الغنوشي على الاستقالة. وظل الباجي فاعلا في المشهد السياسي، بعد انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011. وتشاء السياسة مجدّدا أن تدفع به إلى سدة رئاسة الجمهورية، بعد انتخابات 2014، ضمن منافسة شرسة مع الرئيس المنصف المرزوقي.
سيكون من المجحف اختزال مسيرة الرجل، الحافلة بالمحطات السياسية وتقلبات السياسة الماكرة، والحظ السعيد الذي قد يكون قايد الباجي السبسي وجه خطواته إلى تلك المسالك. لم يكن ثوريا، ولا ادعى ذلك، ولكنه لم يقف ضد الثورة، ورافق البلاد طوال مرحلة انتقالها الديموقراطي الأكثر حرجا وارتباكا. قاد البلاد، وسعى إلى أن يكون أيضا وفيا لقناعاته، مستعيدا قدر الإمكان القيم البورقيبية التي نشأ عليها.
يُلام الرجل على انزياحه نحو نظام رئاسي خلال المدة التي ترأس فيها الجمهورية، مع أن الدستور قد قلص من صلاحياته. لا غرابة في ذلك، إذ يعد الباجي سليل ما يسميها هو المدرسة البورقيبية التي استعاد مفرداتها وقيمها وقاموسها، بل تشبّه ببورقيبة، حتى في ملامحه وحركاته وقسماته. دافع عن شرعية العمل السياسي للإسلاميين، ولم يكن استئصاليا، على الرغم من مؤاخذاته العديدة عليهم. وظل في ذلك كله تعدّديا مؤمنا بالاختلاف، مستندا إلى الدستور. كما يحفظ للرجل رفضه ضغوطا سياسية داخلية وخارجية عديدة، سلطت عليه من أجل إزاحة الإسلاميين، لكنه قاوم ذلك متمسكا بالدستور في هذه المسألة تحديدا.
اختار القدر أن يرحل الباجي قائد السبسي يوم عيد الجمهورية، وكأنه يذكّر محيطا عربيا بجملة من الدروس والعبر، لعل أهمها أن موت الرئيس في بلد ديموقراطي ليس كارثة، مهما عظم شأن الرئيس، فلتونس بعد الثورة دستور ينظم انتقال السلطة بشكل دقيق، وبفضل مؤسسات الدولة القارّة.
حين يموت الرئيس في بلد عربي حتما يكون ذلك فاتحةً لانطلاق صراعات سياسية مدمرة عادة ما يتصدرها العسكر، غير أن ذلك لم يحدث مطلقا. شاءت المصادفات أن يكون الباجي أول من سلم السلطة بطريقة سلمية وسلسة، حين غادر رئاسة الحكومة لفائدة خلفه حمادي الجبالي، على إثر انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، وهو أيضا أول من تسلم الحكم بالأسلوب السياسي السلمي ذاته من خصمه السياسي، الرئيس المنصف المرزوقي، على إثر ما جاءت به صناديق اقتراع انتخابات 2014.
يقدّم الباجي السبسي نموذجا لرؤساء لم “يولدوا ديموقراطيين”، ولا ثوريين، ولكنه ينحني في سياقات الثورات، بحسّه المرهف وبراغماتيته الثاقبة، للتأقلم مع طلبات اللحظة الثورية وحاجاتها. لا يعد الأمر سهلا، وليس من اليسير أن يقدر هؤلاء على إدارة المرحلة الانتقالية بكل تعقيداتها. ثمّة من يعتبر السبسي “وثيقة قديمة” من تراث الماضي السياسي، تضج حنينا للتفرد بالسلطة. ولكن علينا أن نتذكّر أيضا أنه برهن على التزامه الدستور، حين اختلف مع رئيس الحكومة، وعجز عن عزله دستوريا. ومع ذلك، انقاد مكرها لاحترام الدستور الذي كان يعتقد أنه كتّفه، وحرمه من صلاحيات “رئيس كامل”.
مات الرئيس وتونس على أمتار قليلة من انتخابات تشريعية ورئاسية، بعد أن صادق، في أيامه الأخيرة على الرغم من حالة الإرهاق والتعب الشديد، على دعوة الناخبين، ونشر ذلك في الجريدة الرسمية، كما نص الدستور. برّأ ذمته قبل رحيله. نُكست الأعلام وأعلن الحداد ترحما عليه، وعرفانا بما قدّمه للبلاد، وللانتقال الديموقراطي بصفة خاصة، خلال رئاسته الجمهورية، ومروره بمختلف المناصب التي تقلدها أكثر من سبع عقود. انتقلت السلطة إلى خلفه رئيس مجلس النواب، محمد الناصر، في أقل من أربع ساعات، وتحت قبة مجلس النواب رمز سيادة الشعب.
ككل الشخصيات الاستثنائية، ستظل سيرة الرئيس الباجي قائد السبسي تثير الجدل، ولكنها ستظل أيضا عنوانا بارزا على قدرة رجال النظام القديم على مرافقة مراحل التحول الديموقراطي. كانت ميتته ملهمة أيضا. مات يوم الاحتفاء بالجمهورية وقيمها النبيلة. مات بعد ختم قانون دعوة الناخبين تعزيزا لإرادة الشعب الحرة. مات وهو على يقين أن من سيعتلي بعده سدة رئاسة الجمهورية سيكون من تبوح باسمه صناديق الاقتراع. كان ذلك صفحةً من الاستثناء التونسي.
العربي الجديد