خرجت لإلقاء النظرة الأخيرة في وداعه..!!
عبد اللّطيف درباله
نعم.. بعد مئات المقالات في نقد السبسي.. خرجت لإلقاء النظرة الأخيرة في وداعه..!!
يوم أمس السّبت 27 جويلية 2019.. ألقيت النظرة الأخيرة على رئيس الجمهوريّة التونسيّة الرّاحل وهو في طريقه من قصر الرئاسة بقرطاج إلى مثواه الأخير بمقبرة الجلاّز..
لم أكتف بالمشاهدة عبر شاشات التلفزيون.. وإنّما خرجت لأقف على الطّريق.. ورأيت جثمانه وهو يمرّ أمامي على عربة مدفع تجرّها شاحنة عسكريّة.. في صندوق خشبي يغلّفه علم تونس..
أوّل أمس أيضا.. الجمعة 26 جويلية 2019.. كنت أشاهد خروج ونقل جثمان الرئيس الرّاحل من المستشفى العسكري إلى قصر قرطاج عبر شاشة التلفزيون.. ووجدتني أخرج فجأة دون سابق برمجة أو تفكير إلى الطريق القريب لألقي نظرة.. قلت أنّها ربّما تكون النظرة الأخيرة.. وكان جثمان رئيس الجمهوريّة يسير حينها وسط سيّارة إسعاف عسكريّة..
في الموقفين.. قرأت ما تيسّر من القرآن الكريم.. ودعوت بالمغفرة والرحمة للمرحوم الباجي.. ولنا ولأهلنا ولأحبّائنا جميعا.. وتأمّلت.. وفكّرت..
أمام قداسة الموت.. وجثمان رئيس الجمهوريّة يمرّ أمامك وسط موكب مهيب.. ومئات المواطنين يقفون مثلك يشاهدون ويتفاعلون بطرق مختلفة.. يمرّ بذهنك في نفس الوقت قطار سريع من المشاهد والصور والأفكار والتساؤلات.. وتتزاحم المعاني في عقلك ووجدانك..
كان المشهد كلّه دلالات وعبر..
إنّه نفس الموكب الرئاسي الذي كان ينقل رئيس الجمهوريّة في قائم حياته..
لكنّ هذه المرّة كان الرئيس متوفيّا لا حياة ولا روح فيه..
وسيّارة المرسيدس اللّيموزين الرئاسيّة الفخمة المصفحّة.. على غير العادة.. لم تكن تنقل رئيس الدولة .. وإنّما كانت تسير وراءه فارغة وخاوية..!!
نفس الموكب.. بالأمن المنتشر على جانبي الطّريق.. وبالحرس الرئاسي.. وبالدرّاجات الناريّة لحرس التشريفات.. وبسيّارات الأمن الرئاسي.. وبرجال فرقه الخاصّة الملثّمين والمدجّجين بالأسلحة الناريّة.. وسيّارات التصوير التلفزي.. وبطائرات الهيلوكبتر تستطلع الطّريق عبر السماء لتأمينه.. كلّ شيء كما هو معتاد..
لكنّ الفارق كبير.. فالرئيس كان غائبا.. متوفيّا.. ولم يكن يشعر بكلّ ذلك بتاتا..!!
طوال سنوات.. كتبت عددا كبيرا جدّا من المقالات نقدا في الباجي قايد السّبسي.. قبل وبعد تولّيه رئاسة الجمهوريّة..
وربّما بلغ عدد مقالاتي في نقد السبسي بالتأكيد المئات..
فما الذي حفّزني ودفعني رغم ذلك لأخرج إلى الشّارع وألقي النظرة الأخيرة على جثمان رئيس الجمهوريّة الباجي قايد السبسي..؟؟!!
الحقيقة أنّه وبقطع النّظر عن الأفكار والآراء والتقييمات السياسيّة الشخصيّة.. فإنّ الأمر يتجاوز شخص الباجي إلى منصب رئيس الجمهوريّة..
ولم أكن بمفردي في ذلك الموقف.. إذ شيّع الباجي قايد السبسي إلى مثواه الأخير الكثير من فئات الشعب التونسي على اختلاف آرائهم في الرّجل وتقييماتهم له.. وبمختلف أطيافهم وألوانهم السياسيّة ومعتقداتهم وأفكارهم.. على تناقضها.. بمن فيهم من كان ضدّه.. ومن لم ينتخبه.. ومن لم يستسغ رئاسته أو عارض سياسته.. ومنهم من انتقده أو ذمّه.. لكنّهم مع ذلك تابعوا وشاهدوا جنازته.. والكثير منهم حضرها شخصيّا.. أو على الأقلّ ألقى عليه مثلي النّظرة الأخيرة.. وقد وحدّت بينهم جميعا راية الوطن تونس.. وجمعتهم رمزيّة صفة المتوفّي وهو رئيس الجمهوريّة التونسيّة.. بقطع النّظر عن الشّخص..
فالجنازة الوطنيّة التي نظّمت للباجي قايد السّبسي هي أوّلا وبالذّات جنازة لرئيس الجمهوريّة التونسيّة الذي توفيّ وهو في حالة مباشرة للسّلطة..
رئيس بقطع النّظر عن سياسته أو أفكاره أو مدى ديمقراطيّته.. فقد جاء إلى الحكم عبر صندوق الإقتراع.. وكان سيرحل منه بصندوق الإقتراع..
لولا مشيئة اللّه تعالى الذي كتب أن تنتهي حياة رئيس تونس تحديدا يوم عيد الجمهوريّة.. وقبل انتخاب خلفه ونهاية مدّته الرئاسيّة..
نعم.. بعد مئات المقالات في نقد وانتقاد الباجي قايد السبسي.. خرجت لإلقاء النظرة الأخيرة عليه..
ودعوت الله أن يرحمه وأن يغفر له..
وأن يرحمنا جميعا ويغفر لنا..
فلم تكن لي خصومة شخصيّة مع الرجل.. مع الباجي كشخص..
كما ليس لي أيّ حقد أو ضغينة خاصّة اتّجاهه أو اتّجاه كلّ من انتقده أو أكتب ضدّه..
فرأيي في النهاية هو مجرّد اجتهاد ورأي شخصي.. قد يصيب وقد يخطأ.. وهو موجّه لشخصيّات عامّة في ما يخصّ نشاطهم العام وسياستهم وآرائهم وأفكارهم وأعمالهم.. وليس موجّها ضدّهم كأشخاص..!!
وفي نفس المعنى في الإتّجاه المعاكس.. فإنّ مقولة “اذكروا موتاكم بخير”.. أو مقولة “الموت ينهي الخصومة”.. وما شابهها من عبارات في المخيال الشعبي العربي.. هي مقولات لا تنطبق على الشخصيّات العامّة.. مثل رجال السياسة والقضاء والأمن والجيش والفكر والعلم والأدب والفنّ.. وكلّ من يمارس النشاط العامّ.. لكون مناقشة أعمال وأفكار وسياسات وممارسات ونظريّات وإنتاج هذه الشخصيّات.. سواء قبل أو بعد مماتهم.. هو أمر طبيعي وحيوي لاقتباس الدّروس وتحقيق العبرة والفائدة.. وللتطوّر والتقدّم والإصلاح..
ولذلك سيبقى الباجي قايد السّبسي.. وغيره من الأحياء كما الأموات.. موضوعات للدّراسة وللنّقد والتقييم والمدح أو الذمّ حتّى بعد وفاتهم.. وهو عمل فكري لا يشينه في شيء قداسة الموت..
في النهاية رحل الباجي عن السّلطة.. ووري جثمانه الثرى..
ولم يرافقه إلى القبر لا كرسيّ الحكم.. ولا مكتبه برئاسة الجمهوريّة.. ولا قصر قرطاج.. ولا القوّات العسكريّة.. ولا الأمن الرئاسي.. ولا سيّارته الرئاسيّة المصفحّة.. ولا حرس التشريفات.. ولا الخيّالة.. ولا الدّراجات الناريّة المبهجة.. ولا الرّايات.. ولا الأزياء الشرفيّة الجذّابة.. ولا كاميرات التلفزة.. ولا أسطول السيّارات الفخمة.. ولا ضبّاط الجيش والأمن.. ولا المستشارين.. ولا الوزراء.. ولا كبار المسؤولين في الدولة.. ولا الصحفيّين.. ولا قادة وسفراء الدول الأجنبيّة.. ولا شيوخ الدّين.. ولا أولاده وأفراد عائلته..
كلّهم أوصلوه إلى القبر.. وتركوه وحيدا بمفرده تحت التراب.. وعادوا إلى حياتهم..
وحده الباجي بقي ليقابل وجه ربّه بما قدّم في دنياه.. إنسانا.. ومواطنا.. ومسؤولا.. ووزيرا.. ورئيسا..
وربّنا أعلم بما في القلوب.. وبما ظهر أو خفي من أعمال..
واللّه عادل في حسابه.. لا يظلم أحدا..
كان من المهمّ جدّا أن يشاهد كلّ السياسيّن.. وكلّ حكّام تونس.. سواء كانوا مسؤولين صغارا أو كبارا.. رؤساء دولة أو رؤساء حكومة.. وزراء أو كتّاب دولة.. ضبّاط جيش وأمن.. أو قضاة.. أن يشاهدوا جنازة رئيس الدولة.. ليتّعظوا.. ويتذكّروا لعلّهم كانوا قد نسوا.. بأنّهم مهما بلغ سلطانهم أو شأنهم أو علوّهم في البلاد.. ومهما بلغت سلطتهم وسطوتهم وقوّتهم ونفوذهم.. ومهما كان جاههم.. ومهما جمعوا من أموال وحقّقوا من ثراء.. فإنّ ما يبقى هو التاريخ.. هو رصيد وذكرى أعمالهم.. وإنجازاتهم.. وما حقّقوه من إيجابيّات ومنافع للشعب وللمواطنين..
مهما كان منصبك في الدّولة.. فإنّه سيأتي اليوم الذي ترحل فيه.. وتفقد فجأة وفي لحظة كلّ شيء.. فلا بهرج ولا سلطة ولا سلطان.. ولا سطوة ولا نفوذ.. ولا قوّة ولا مال.. ولا جاه ولا بنون.. لا شيء من كلّ ذلك مع الموت..
أردت أن أشاهد شخصيّا ومباشرة.. بنفسي.. موكب جثمان وجنازة رئيس الجمهوريّة الرّاحل الباجي قايد السّبسي وأنا أفكّر في كلّ تلك الخواطر.. وأتساءل.. لم لا نرى رجال سياسة ودولة في تونس..يفكّرون في تخليد إسمهم في تاريخ الوطن.. ويعملون وهم في السّلطة على تحقيق إنجازات للشعب التونسي وللبلاد.. يتذكّرهم بها النّاس حتّى بعد وفاتهم.. ويغمرونهم بالحبّ والمودّة والتقدير والإحترام والإمتنان في قائم حياتهم.. وينعمون عند وفاتهم بجنازة وطنيّة شعبيّة مهيبة وعارمة يكرمّهم فيها الناس.. سواء توفّوا وهم في السلطة أو بعد مغادرتهم لها..؟؟
لماذا ينعم الله على بعض حكّام تونس بالسّلطة والسلطان.. ويهديهم أعلى المراتب.. فيجنحون إلى سوء إستغلال السّلطة والنّفوذ.. وإلى جمع المال بشراهة.. وتعمّد تحقيق المصالح والمنافع الشخصيّة.. والجنوح إلى الإستبداد في الحكم.. والتشبّث بكرسي السّلطة بكلّ الوسائل والطّرق.. عوض التفكير في تحقيق الفائدة للبلاد والعباد.. ومحاولة تخليد إسمهم في التاريخ.. ونحت محبّتهم في وجدان وقلوب وعقول المواطنين إلى الأبد.. قبل وبعد رحيلهم..؟؟