ملاحظات جنائزية ..
علي المسعودي
ليس من السهل القضاء على الروح الملكية بجرة قلم.. وليس من السهل إطلاقا تجديد الوعي الجماعي في بضع قصير من الزمن.. هي روح مترسخة لقرون في وعي الشعوب وسيكون من السذاجة أن نعلن وفاتها في ركن الوفيات من صحيفة اليوم.
•••
بعد عقد أو يزيد من عمر الدولة الوطنية بدا واضحا أننا طوينا للأبد صفحة العائلة الحسينية، ولكن أساس النظام الملكي وبهرجه لم يمسسه سوء. يحدث ذلك بالرغم من عزل محمد الأمين باي آخر البايات الحسينيين وبالرغم من إعلان النظام الجمهوري سنة 1957..
رحل البايات، غير أن بايا جديدا أطل على الناس في سمت مختلف.. بايا يستمد سلطاته هذه المرة من الشعب، ومن مشروعية الحركة الوطنية التي آلت إليه زعامتها.
كان بورقيبة أول رئيس للجمهورية، ولكنه كان ملكا أيضا، يحسده على سلطاته الواسعة كل ملك.
الذي حدث هو أن شرعية السلالة تمّ تعويضها بشرعية النضال والشهادة، شهادة الذين سقطوا في معارك التحرر الوطني. وكانت أصدق صور هذه الشرعية هي غرة جوان يوم “عودة الزعيم”. وكانت تلك البيعة الأولى للملك الطامح للعرش.
ولم يكن الأمر بدعة في مسألة التحول نحو الجمهوريات.. فنحن نعلم أن الجمهورية الأولى التي أعلنتها الثورة الفرنسية على أنقاض الملكية لم تعمر إلا قليلا، وأن أسس هذا النظام المطلق قد عادت بسرعة على يد نابليون بونابارت.. وأن استبداد أتاتورك الجمهوري مثلا يتساوى في سوئه مع سلاطين الأتراك العثمانيين.
وكان بونابارت -مثل بورقيبة- صانع الدولة الحديثة، فهو من نشر التعليم وأسس الإدارة العصرية، واستثمر في البنية التحتية… ولكنه لم يحفل كثيرا بمسألة القمل !..
•••
لم يهتم بورقيبة في شيخوخته الأولى بأمر الوراثة. ربما كان ذلك بدافع من نرجسيته المطلقة، أو لاعتقاده أن شرعية “الجهاد” لا يمكن توريثها. حتى فاجأه بيان السابع من نوفمبر، بيان السطو والخلع، وتمّ ارساله الى محبسه بالمنستير كما فعل هو نفسه بالباي الحسيني الأخير.
ولكن الثورة خلطت أوراق الجميع. ولم يعد الوصول إلى قصر قرطاج ممكنا دون وساطة لا لبس فيها من الشعب. وانصرف صانعوا القادة إلى البحث في عمق الوعي العامي عن أدوات للنحت حتى وجدوها… وهكذا انتقلنا تدريجيا من شرعية السلالة الحسينية إلى شرعية “الجهاد” ثم إلى شرعية “رجل الدولة”..
كان بورقيبة هو “رجل الدولة” الأول في عيون أتباعه.. وهذه “الصفة الملكية” بقيت متوارثة لدى قلة من صفوته.. قلة جديرة لوحدها بالحكم في هذه البلاد.
لقد قام الخطاب السياسي للنداء أثناء الانتخابات المنقضية أساسا على هذه العبارة الملتبسة دون أن يتطوع أحدهم لتفكيكها.. فالدولة لها رجالها، كما لكل مملكة أسرتها الحاكمة.. ومن هذا المنظور تم التركيز بشدة على شخصية المنصف المرزوقي، هذا الأسمر الذي لا يحمل ربطة عنق، ولا يحمل زرقة في العين أو يفهم في البروتوكول والاتيكات !.. إنه أقرب إلى “باي الشعب” منه إلى البايات ذوي الدم النقي !.. وكان مروره بقصر قرطاج قوسا فرضته العوامل الثورية وانتهى.
لم يخيب الشعب الكريم رجاء طالبي العرش. فانتخب محمد الباجي قايد السبسي رئيسا للبلاد، رجل الدولة ورفيق درب المجاهد الأكبر. ولكن الحواجز التي أقامتها الثورة من خلال الدستور منعته من تقمّص هيئة الملك في كل التفاصيل. وبدا في أيامه الأخيرة أقرب إلى صورة الملكة أليزابيت.
•••
يبدو أن المظاهر الجنائزية المبالغ فيها، وعودة خطاب التمجيد الساذج للزعامة المفترضة وللوطن هي أقصى ما استطاع المرحوم الحصول عليه. فعلى الأقل لا يمنع الدستور أيا من هذه المبالغات. هذا الدستور الذي سعى السبسي إلى تغييره أحيانا أو تجاوزه أحيانا أخرى.. دون جدوى.
لم يعد يسمح تقسيم السلطات بظهور باي جديد. ومع ذلك حظي الرجل باحتفال جنائزي يليق بالباي الأخير.. جنازة يشيعها الشعب على الطرقات، بينما “البلدية ورجال الدولة” وحدهم، يحتلون صور المعزين على الشاشات.!