من سراب "الجمهورية الأولى" إلى طيف الجمهورية الثانية
منذر بوهدي
لم تدم بدايات ارساء الجمهورية الاولى منذ 1957 الا بضع سنين فبعد المصادقة على دستور 1959 والدخول في الصراع الدموي بين اليوسفيين والبورقيبيين، اكتشف الجميع ان الزعيمان لم يكونا ديمقراطيين بحق كما ادعى كل منهما، لانهما لو كانا كذلك، لتمكنا بسهولة من الاتفاق منذ سنة 1955 على بروز حزب معارض يعبر بأسلوب سلمي عن وجهة نظره المخالفة وتجاوز استعمال العنف والتناحر… هذه الفرصة الاولى المهدورة كانت اللحظة الذهبية لإرساء العقلية والممارسة الديمقراطية في وطننا، ولكن زرعت بدلها بذرة خبيثة أسفرت مع الأسف عن عقلية الالغاء والإقصاء بالعنف والاستئصال وهو ما طبع ايضا أشكال فض التوترات الاجتماعية والسياسية طيلة المسار الوطني بعد الاستقلال على مدى حوالي نصف قرن التي اقترنت كلها بالعنف الدموي…
انتهت تجربة بورڤيبة الى نظام استبدادي مركّز في شخصه، ثم خلفه نظام مفيوزي عائلي قمعي أمني، اضاع فرصة اخرى لتعديل المسار وارساء النظام الدمقراطي الجمهوري الحقيقي، وحوّل البلاد الى مرتع انتقامي من الخصوم السياسيين بمختلف مشاربهم من نقابيين وإسلاميين ويساريين وحتى دستوريون، مما دفع الشعب التونسي الى ان يزيحه عبر ثورة الحرية والعزة والكرامة التاريخية ذات 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 ومن ثم العودة للتأسيس من جديد لجمهورية مرة ثانية ومنذ صادق المجلس الوطني التأسيسي على دستور الجمهورية التونسية في جانفي 2014 لتدخل تونس مرحلة اخرى ونحن لازلنا نترقب اكتمال هذا البناء الجمهوري الجديد الذي تعود فيه السلطة للشعب ليمارس سيادته كاملة في اختيار من يحكمه ويبسط سيادته على كل مقدراته وثرواته.
ولكننا نرى الْيَوْم ان مشهد نهاية حكم بورڤيبة يعود بكل تفاصيله ليحتل الساحة باعتار تشابه الاوضاع في علاقة بمرض الرئيس الباجي وبروز بداية نهاية مرحلة حكم الباجي كرئيس دولة وتربص البعض بالسطو على مقاليد السلطة بكل الأشكال بمنطق العربدة السياسية ومهما كان الثمن وان حتى العودة على مكتسبات ما بعد الثورة ومواجهة الشعب وربما حتى الظغوط الخارجية الرافضة لمثل هذه المغامرات الخطيرة.
غير انه ومن حسن حظ التونسيين، وحكمة المؤسسين الجدد ان اختلافات كثيرة تعرقل هذه المحاولات المتهورة، منها الرغبة الملحة في التوريث وأخرى للانتقام من الشعب المتربص بمصالح بعضهم من الفاسدين والمجرمين الهاربين من العدالة، ولكنها لا تنفيها بشكل حاسم ومطلق، ومن أهم هذه المعوقات ان منصب رئاسة الجمهورية لم يعد يحضى بالمكانة التنفيذية من حيث الصلاحيات التي كان عليها زمن بورڤيبة وبن علي بما يمكن المتربصين بأحكام قبضتهم على مقاليد السلطة متى تمكنوا من تنفيذ مخطط السطو، فقد أصبحت صلاحيات منصب رئيس الجمهورية محدودة وبروتوكولية ورمزية، هذا من جهة، وانه برغم غياب المحكمة الدستورية او بالاحرى تغييبها المتعمّد فان السلطة الأصلية تضل في مجلس نواب الشعب المنتخب من طرفه والمفوض حصريا للبت في الخلافات الكبرى عبر اليات متعددة منها الاستفتاء.
هل ان نظاما جمهوريا حقيقيا بصدد التشكل في تونس ؟ حقيقة وبكل موضوعية لا تزال الطريق طويلة والعوائق كثيرة، ولكن ثمة الإرادة الشعبية الحقيقية التي تتطلع لذلك، وان بدت مرتبكة ومترددة بسبب الصعوبات الحقيقية على المستوى والاقتصادي والاجتماعي والتي تجعل الأوليات تتداخل وهذا امر طبيعي في هكذا اوضاع ،ولكن معركة ارساء الجمهورية الثانية للأسف تخاض في جزء منها خارج أسوار الوطن وقادتها الحاليين فاشلون على جميع المستويات ورغم كل هذا وذاك فانه لا يعني بالمرّة اننا لن نسترجع الوطن في قادم السنين وان جمهوريتنا الثانية بصدد البناء لا محالة وتتكلس مؤسساتها ومناعتها باستمرار…