الثقافات الاستيعابية والثقافات الاستئصالية
بشير العبيدي
#معركة_الوعي ! …
لنتأمّل حوالينا : في الأسرة والشارع والمدرسة والعمل والمدينة والبلاد والإقليم والأمة والكرة الأرضية : سنجد الاختلاف يطبع كل شيء في الوجود البشري، حتّى في اللهو واللعب والترفيه، اختلقوا له فرقا مختلفة متناحرة، فاصطف ناس خلف هذا الفريق وناس خلف ذاك الفريق، فتراهم بالألوف يخرجون فرحاً بفوز أو ترحاً بإخفاق، وهم لا ينالهم في الحقيقة من وراء الفوز منفعة ولا يصيبهم من خلف الإخفاق نصَبٌ، إنَّما هو قانون الاختلاف في المجتمع : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم !
نعم! لقد خُلقنا للاختلاف لأن الاختلاف هو أعظم تجليات الحرية الفردية والجماعية : فلكي تكون حرا، لا بد لك من أن تختار. وحين تختار، فأنت بالضرورة في سجل الاختلاف، إذ لا يتسنى أن يكون الإنسان نسخة مطابقة لأخيه إلا عند البهائم. من هنا، كان الاختلاف البشري هو الكلفة الباهظة لحرية الاختيار، تلك الحرية التي تنجر عنها المسؤولية، إذا لا حساب على مجبَرٍ !
إلا أن الأمم والشعوب تتفاضل بينها في هذا الزمان وفِي كل زمان بحسب قدرتها على إدارة هذا التنوع والاختلاف والتشكل على قوانين السنن. ويوجد صنفان من الثقافات : الثقافة الاستيعابية والثقافة الاستئصالية.
أما عن الثقافات الاستيعابية، فمثالها تلكم الثقافات الراسخة المتزنة التي فهمت مبكرا أنها لا يمكنها محو هذا الاختلاف أبدا، ولا يمكنها استئصال الاختلاف، فطفقت تحلب من ضرع هذا الاختلاف طاقة هائلة للدفع نحو الأمام، فعالجت تلك الثقافات تناقضاتها عبر استنبات رؤى جماعية مشتركة تتغذى من الثقافة المحلية العريقة ومن الروح الجماعية الأصيلة، وتدفع الجموع نحو حياة تنبني على ميزان وسطي بين حاجة الفرد وحاجة المجموعة، ونجحت بأقدار في تحقيق ذلك، كما في بلاد اليابان، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وتركية، وسويسرا وبلدان أوروبا الشمالية، وبعض التجارب الناجحة الأخرى.
أما عن الثقافات الاستئصالية، فهي تلك التي تحمل في جذورها مورّثات الاستئصال للآخر، والتي تشوّهت بمفعول فساد الفكر والسلوك، وتقوم على التناحر والبغضاء والكره والإكراه والأحقاد والدسائس، لأنّها إطلاقية في نظرها، شمولية في هواها، استبدادية في ممارساتها، قامت على نكران حق الآخر في الاختلاف، بتعلة دينية أو بدعاية علمانية أو عن طريق المسخ الممنهج للوعي الفردي والجماعي قصد تسخير هذا الوعي لعبادة الأوثان السياسية والأفكار المذهبية، فتسبب كل ذلك في صناعة مجتمعات منافقة، تظهر ما لا تضمر، فتعطل الإبداع، وعم الجمود، وانتشر القعود.
وما من شك في أنّ نشر الثقافة الاستيعابية التي تؤمن مكانا لكل أحد داخل المجموعة، وتضمّ الجميع، هو مما يسهل الانتقال من حالة التآكل الداخلي والتناحر الدامي إلى حالة التدافع الطبيعي الفطري. إن ذلك أشبه بالمهندس المعماري الذي يهندس بناية كبيرة، فيتخذ لها بوابة كبيرة جدا تستوعب كل أنواع الداخلين والخارجين، من أصحاء ومعاقين، وخفافا وثقالا، وقصارا وطوالا، ومتفسحين وعاملين. ولا يكون تصميم مثل هذه البوابة إلا بالقضاء النهائي على الظواهر والأفكار الاستبدادية التي تزين للمجتمعات وهم التماثل والتطابق والتساوي، وتزركشه بالدعايات الدينية أو العلمانية أو التقليدية، وتخرق لها عداوات وهمية تزعم فيها أنها مستهدفة من طرف الأعداء، وفِي حقيقتها تخرّب المجتمعات عبر التفرقة والغبن والتمييز والتمذهب، لأن الاستبداد لا يمكنه أبدا أن يعتاش إلا من جيفة الخلافات والعذابات والتطاحنات.
نعم، يمكن للثقافة الاستئصالية أن تتحول تدريجيا إلى ثقافة استيعابية، وذلك عبر جهود كبرى للتوعية، تبدأ من البيت والمدرسة والمسجد والمعمل، وتهتم بالجيل القادم خاصة، وتسلحه بقوة فكرة الاستيعاب. وإن نحن لم ننجز ذلك، سنورّث ثقافتنا الاستئصالية لأولادنا، وندفع بهم إلى جحيم الخلافات التي هي، في نهاية التحليل، انعكاس لثقافة الاستبداد الذي نحن من ضحاياه. ولا يمكننا القضاء على ثقافة الاستئصال إلا بثقافة الاستيعاب.
#بشير_العبيدي <<>> ذو القعدة 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا