الأجندة السياسية للإرهاب
لطفي حجّي
مع كل مصيبة تحل ببلادنا يتسابق سياسيون لتوظيفها سعيا لتوريط خصومهم زاعمين تحقيق مغانم سياسية.
ويتناسون أن خراب الأوطان يأتي من توظيف المصائب بدل التوحد لمواجهتها بما يلزم من تعقل ورصانة.
بعد شهرين فقط من الثورة ضرب الإرهاب بلادنا.. ورغم أن الرسالة واضحة فإننا ومنذ ذلك التاريخ لم نسمع من السياسيين من تحلى بالشجاعة اللازمة وفك شفرة الإرهاب وقدم رسالة مطمئنة للتونسيين.
صحيح أن الأداء الأمني والعسكري تحسن منذ ذلك التاريخ مما مكّنه من إفشال مخططات إرهابية والتصدي للمجموعات الإرهابية ببسالة في المناطق الحدودية، لكنّ اداء المؤسستين الأمنية والعسكرية، يحتاج إلى استراتيجية سياسية وأخرى تواصلية لا نرى لهما وقعًا في مثل هذه المراحل المفصلية الخطرة.
السياسيون عادة ما يغيبون في الساعات الأولى أو الأيام الأولى لهذه المصائب، وغيابُهم يفسح المجال للاشاعة التي تقودها لوبيات الضغط والتي عادة ما تكون الوجه الآخر للإرهاب تسعى لتحقيق أغراضه وسط التونسيين بعد أن عجزت تفجيراته عن تحقيقها.
فهذه المراحل المفصلية تحتاج فعلا إلى سياسيين شجعان ومتحدثين جيدين قادرين على إقناع التونسيين عند حدوث المصيبة.
الحديث عن خطر الإرهاب بالتهويم والتعميم مَجَّهُ التونسيون لأنهم يدركون بطبعهم وبثقافتهم أن الإرهاب كارثة على البلاد والعباد.
واكتفاء المحللين الجهابذة أذرع اللوبيات السياسية الخفيّة التي تتمعش من الإرهاب، اكتفاؤهم بالحديث عن المجموعات المنفِّذة فقط وفكرها التكفيري المتطرف، وأساليبها المعتمدة في التفجير، وفي قطع الرؤوس، وذئابهم المنفردة التي تفجر بالأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، لم يعد كافيا.. لأن التونسيين خبروا ذلك جيدا، بل منهم من يدرك خطورة ذلك أكثر من أولئك الجهابذة أنفسهم الذين تمنعهم ارتباطاتهم عن قطع الخطوة الضرورية الموالية التي تقود بالضرورة إلى الحديث عن قاعة العمليات التي تخطط، وتوفر الأموال، وتصدر الأوامر، وتختار التوقيت، والأسلحة وغيرها من المعدّات اللوجستية.
لا يمكن للتونسيين الرافضين للإرهاب بطبعهم أن يقتنعوا أن ذلك الإرهابي الأبله، أعمى البصيرة والذي يتطوع لقتل الأبرياء، يخطط بمفرده أو بالتعاون مع مجموعة تقاسمه نفس الفكر المتطرف المعششة في الأحياء المعدمة حيث الفقر والتهميش.
تلك هي الدرجة الصفر في مقاومة الإرهاب، ولا شك أنها ضرورية للقضاء على أي حاضنة فكرية أو سياسية للإرهاب.
لكن الدراسات الاستراتيجية، والتجارب المقارنة بيّنت أن الحاضنة لا تنمو إلا براع. والراعي هو العقل الاستراتيجي، وبداية المقاومة الحقيقية هي ضرورة شلّ العقل الاستراتيجي للإرهاب.
لقد ضرب الإرهاب في عمق الديمقراطيات الغربية وباسم مرجعيات فكرية مختلفة، وكثير من تلك الدول انتصرت على الإرهاب بعد أن تلقت لسنوات ضربات موجعة. وانتصارها جاء بعد أن كشفت عن العقل الاستراتيجي فضلا عن مواجهتها الأمنية الميدانية الضرورية للإرهاب.
الإرهاب في الديمقراطيات الغربية ضرب وفق أجندات واضحة. منه من كان لأسباب أيديولوجية رافضة للنظام الرأسمالي في تركيبته ومضمونه، فكان يعتقد أنه يمكن أن يفكّك ذلك النظام بالعنف، ومنها من كان لأسباب تتعلق بالحروب الحدودية وأصبح لعبة في صراع المحاور، ومنه من كان لتحقيق مطالب سياسية، تتبناه صراحة مجموعات معلومة تعلن مطالبها بعد كل عملية.
في حين أن الإرهاب الذي استهدف بلادنا في وقت مبكر من الثورة لا يصنف ضمن تلك الأصناف الغربية، وهو ما يدفع الخبراء -الحقيقيين وليس المزيفين- والسياسيين إلى طرح السؤال الأساسي وهو من المستفيد من جريمة الإرهاب؟
والبداية المبكرة للإرهاب في تونس تمهّد لجواب عجز عنه السياسيون.
ثمة من يريد البقاء سجينا لأطروحة داعش وأخواتها، الأطروحة التي أثبتت عجزها لأنها لم تجب عن أسئلة النشأة والأدوار السياسية فبقِيَ لغز داعش الإرهابي معلقا بعد أن شارفت على الانهيار الوجودي.
أصحاب هذه الرؤية باتوا منزعجين من التحليل المدعم بمعطيات بيّنة وهو أن الإرهاب يستهدف التجربة الديمقراطية، وتدعمه دول غربية ديمقراطية (وتلك مفارقة كبرى)، ودول عربية كارهة للديمقراطية لأنها مهدِّدة لعروشها، وسمة هذه الدول أنها بيدق ضمن الاستراتيجية الدولية والإقليمية الأشمل وهي مجرد حارس أمين، ومنفّذ مخلص للتعليمات.
وأنا شابّ في ثمانينيات القرن الماضي قرأت للمفكر الجزائري مالك بن نبي ونظريته حول “القابلية للاستعمار” ومنذ ذلك التاريخ استبعدت من ذهني نظرية المؤامرة الخارجية التي تستهدف العرب، لكن الثورة التونسية وما رافقها من تداعي الدول والأجهزة الاستخبارية من كل حدب وصوب على بلادنا جعلني أراجع قناعتي وأدرك جيّدا أن التغيير الداخلي الحقيقي لا معنى له إن لم يحصّن البلاد من الأطماع الخارجية ومخططاتها ومن نخبة السياسيين العملاء الذين يتسابقون لإعلان ولائهم واستعدادهم لتجسيد تلك المخططات، وما لا يدرك من تلك المخططات بالسياسة واللين يدرك بالإرهاب.
ووحدها الدول التي حصّنت تجاربها الديمقراطية وفق إستراتيجية وطنية تقرّها جميع الأطراف السياسية مهما كانت خلافاتها الداخلية، تمكنت من الانتصار على الإرهاب حتى وإن وجه لها ضربات معزولة موجعة.. لأن الحصانة الوطنية تهون من الألم وتمنع الإرهاب من قطع المسيرة نحو الديمقراطية.