تدوينات تونسية

أخاف بعض النّقابيين أكثر ممّا أخاف رجال السّلطة

ليلى حاج عمر

تذكّرت هذه الحادثة بعد أن استمعت هذا الصباح، على الإذاعة، إلى قيادي بالاتّحاد العام التونسي للشّغل يردّ بقوّة عن الاتّحاد التهمة الموجّهة إليه.
وأنا طالبة في مقتبل العمر مازلت أطير مع العصافير وفي زمن احتدام الصراع داخل الاتّحاد بين الحبيب عاشور وأنصاره وجماعة الشرفاء الذين أرادهم النظام البورقيبي في أواخره وبعد أحداث ثورة الخبز (1984) بديلا عن القيادة الشرعية اتّفق مجموعة من أصدقاء الدّراسة على حضور المؤتمر التصحيحي وعلى حضور وفقة في ساحة محمد علي ثمّ الانطلاق منها نحو نزل أميلكار بالضاحية الشمالية وكانوا يبيّتون أمرا واقترحوا عليّ الحضور ووافقت وحين وصلت كانت ساحة محمد على فارغة وقيل لي إنّ الأصدقاء والزملاء قصدوا النّزل. فما كان منّي إلّا أن استقلّيت سيّارة أجرة وطلبت من السّائق الإسراع (يا إلهي أيّ روح كانت لدينا فترة الشباب) وفي الطريق كانت السيارة تطوي الطريق وكان سائق الأجرة يتأمّلني في المرآة ويحدّق إليّ كلّ مرّة فأشيح بوجهي فيعيد الكرّة ثم يقول: هل ستذهبين لحضور المؤتمر في أميلكار؟
ـ نعم
ـ المكان محاصر ولا يدخل أحد
ـ سأدخل
صمت طويلا ثمّ قال:
ـ كيف لزهرة غضّة رقيقة مثلك أن تهتمّ بأمر الاتّحاد؟
لم أجبه. أشحت بوجهي عنه وتركته لأفكاره. وكان همّي أن ألحق الأصدقاء فأنا أعلم أنّي لن أستطيع شيئا دونهم. وربّما استطعت التسلّل بينهم لإشفاء غليلي في الاطّلاع عن قرب على ما يجري ( وهو أمر لم يفارقني )
في الإثناء كان السائق يواصل:
ـ دبّر راسك توة تشوف بعينيك. موش انت أوّل واحد نوصلو اليوم.
لم أهتمّ به وكنت أتأمّل الطريق وهو يتناثر وراء السيّارة مؤذنا بقرب الوصول. وحين تراءت لي ضاحية قرطاج حمدت الله على نجاتي من سائق السيّارة الذي لم يكفّ عن التحديق حتّى شعرت بأني في ورطة كبرى.
وأنا أهمّ بالنّزول فوجئت بمجموعة من الرّجال ضخام الجثّة يطوّقون السيّارة وهم يحملون السّلاح بأيديهم (أجل سلاح) ويصرخون في وجه السائق: عد من حيث أتيت.. هيّا عد قلنا لك. في تلك اللحظة شعرت أنّ قلبي يهوي من بين رئتيّ إلى أحشائي حتى كاد يتوقّف عن النّبض.
يدير السائق السيّارة بصمت من عاش موقفا كهذا من قبل. وينظر إليّ فينتبه الرّجال إلى وجودي ويصرخون في وجهي: من أنت؟ وماذا تريدين؟ ومع من أنت؟
قلت له بصوت مختنق حاولت أن يكون خشنا: جئت لأحضر المؤتمر.
تأمّلوا وجهي ونبرات صوتي البريئة فتخلّوا عنّي وعادوا إلى السّائق يصرخون فيه وقد رفع أحدهم السلاح: أعدها الآن من حيث أتت. ثمّ نحوي: لا تعودي إلى هنا ثانية.
والسيّارة تطوى الطريق طيّا كان السائق صامتا وقد أثرت شفقته. أمّا أنا فكنت أفكّر في ثمن سيّارة الأجرة ذهابا وإيابا. وهو أمر كلّفني في ذلك الزّمن قرابة 20 دينارا (نسيت المبلغ الذي دفعته بالتدقيق) وهو ما يساوي 50 دينارا الآن.
كنت طالبة تحملني الأفكار عاليا (ومازلت) ولم أكن أحسب لشيء حسابا (مازلت.. قليلا .. مع الأبناء نتغيّر ونشعر بالخطر) ولكنّي حين عدت إلى البيت انفجرت بالبكاء وأنا أروي لوالدي ما حدث: لقد رفعوا السّلاح في وجهي يا أبي.
ومنذ ذلك اليوم صرت أعتبر الاتّحاد “أكبر قوّة في البلاد”. وصرت أخاف بعض النّقابيين أكثر ممّا أخاف رجال السّلطة.
هو الشّعور الذي انتابني اليوم وأنا أسمع أحد قياديي الاتّحاد يتكلّم في الإذاعة. الشعور بالخوف. لقد كانت لهجته تنذر بالوبال.
(ابني يقول لي وقد رويت له الحكاية: ممّا.. مادمت صرت تروين هذه الحكايات من الأرشيف فقد كبرت)
قد يكتب هذا الأرشيف يوما..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock