آخر المورسكيات
لطيفة شعبان
قراءة في رواية “آخر المورسكيات” لخديجة التومي
“الأدب ماساة أو لايكون” هكذا عرف المسعدي الادب وهكذا يلمسه المطلع على رواية واخر اصدارات الروائية “خديجة التومي” “آخر المورسكيات”. لقد جاءت الرواية حاملة لمآسي المرأة ممثلة في -ريحانة- الشخصية الرئيسية في الرواية، ولكنها لم تقف عند هذا الحد بل تجاوزته للتعبير عن مآسي المثقف والمناضل والسياسي ومآسي الوطن والأمة. وتناولت الرواية قضايا عديدة لا يتسنى ضيق الوقت المخصص لهذه المداخلة أن يلم بها لذلك ركزت هذه الدراسة على 4 محاور رأيت أنها قضايا أساسية.
وقبل البدء أردت التوقف عند المبحث الآتي: هل يمكن ادراج أدب “خديجة التومي” ضمن “الأدب النسوي”؟ باعتبار أننا نتناول بالدراسة رواية لامرأة بطلتها امرأة وهي “ريحانة” ذات الأصول الاندلسية المثقفة والمناضلة والعاشقة. الادب النسوي وهو ذلك الأدب، الذي يفرض عليها ككاتبة، قيود البقاء في دائرة الكتابة على المرأة فقط، بمعنى طرح قضايا المرأة وهمومها وأفكارها وطموحاتها. فالمرأة حسب رأي النقاد هي الأقدر على التعبير على المرأة واختراق عالمها وأفكارها. ولكن اذا ما تعمقنا في رواية “آخر المورسكيات” وفي كل روايات خديجة التومي نلحظ التزام الروائية بقضايا المرأة ولكن ليس بمعزل عن قضايا تجمعها مع الرجل وهي قضايا الوطن وقضايا الامة. وهذا ما سنتناوله خلال هذه الدراسة.
المبحث الثاني الذي أردت التوقف عنده وهو في علاقة بالاول, وهو مكانة المرأة في رواية “آخر المورسكيات” والقارئ للرواية لابد أن يجد نفسه بالضرورة يقارن بين “ريحانة” المسعدي في “حدث أبو هريرة قال” و”ريحانة” خديجة التومي في “آخر المورسكيات”. لقد كانت ريحانة المسعدي تلك المرأة التي تمثل رمزا للجسد والشهوة والمتعة، كما كانت تلك المرأة التي تكبلها العادات فهي غالبا ما تشده الى “البيت” بما يعنيه البيت من جدران وبالتالي من قيود وانغلاق و ثبات وسكون. وكان أبو هريرة يحذرها قائلا “حذرتك أن تكوني بيتي” في حين كانت “ريحانة” خديجة التومي “وهج متقد يعبر خطوط المستحيل ويكسر القيود بحثا عن آفاق بلا حدود” …”فضاء بلا أرض ولاسماء ” لقد كانت تقول “لروح” –الشخصية الرئيسية الثانية- “البيت كهف من الماضي…فلا تقبرني في بيتك الموعود”. لقد حملت “ريحانة” خديجة التومي الوطن هما وحلما ومسؤولية.
حملته هما بانخراطها في صفوف النضال أيام دراستها الجامعية فحملت بذلك قضايا “الوطن الرازح تحت الظلام”ص107 وكانت النتيجة أن “دفعت نبضات عواطفي أول مهر” ص107. بطلتنا وكما الكثيرين من ابناء حقبة الثمانينات وبداية التسعينات رأت في النضال “انغماس ومشاركة ووعي وتحمل ودفع لكل الفواتير من الروح ومن الدماء” ص109 فكانت النتيجة أن وجدت نفسها “في أول منعرج تحمل الخيبات”
حملت “ريحانة” خديجة التومي” الوطن مسئولية، مسؤولية الاسرة التي كانت معيلها الوحيد بعد غياب الزوج الذي اضطرته فاتورة النضال الى الهجرة بعيدا عن الزوجة والأبناء. كذلك مسؤوليتها كمربية ذات رسالة تزرع الوعي والوطنية لدى تلامذتها.
ايمانها بالوطن وبقضاياه كان ثمنه تضحيتها بحبيبها الذي رات فيه حاجزا بينها وبين الوطن “بيني وبينك وطن” كانت هذه آخر الكلمات التي خطتها لحبيبها “روح” رسالة حسمت بين “ريحانتين” “ريحانة العاشقة” و”ريحانة المناضلة”.
النقطة الثالثة التي اردت التوقف عندها وهي بنظري نقطة اساسية تناولتها الرواية وهي التطرق الى “الشتات الأندلسي” أو الهجرة المورسكية فرارا من محاكم التفتيش التي نصبت لمسلمي الاندلس بعد سقوط آخر معاقل المسلمين في اسبانيا وهي غرناطة سنة 1492. الشتات الأندلسي لايمكن الا ان يحيلنا الى الشتات الفلسطيني منذ سنة 1948 الى اليوم، وما تطمح اليه الصهيونية العالمية باذرعها المتعددة اليوم، وخاصة منها الأذرع العربية، ومن خلال صفقة القرن، هو اعادة هذا الشتات الاندلسي ولكن الضحية هذه المرة هو شعبنا في فلسطين. فكأني بالروائية تقول أن العرب ومنذ القرن ال15 قد كتب عليهم الشتات كما كتب على اليهود من قبلهم لعلهم يتعضون. فما هي أصداء الشتات الأندلسي في الرواية وماهي علاقته بالشتات الفلسطيني؟
القضية المورسكية كانت حاضرة منذ عنوان وغلاف الرواية فالعنوان واضح “آخر المورسكيات” ممثلة في الشخصية الرئيسيىة الاولى “ريحانة” ذات الاصول المورسكية – فجدها الاكبر هو “جواد الغرناطي” وجدتها شورية بنت المؤيد بن جواد الغرناطي كانت التي نقلت الروائية مأساة التهجير والتنكيل بالمسلمين على لسانها- و “الموريسكيين” أو “الموريسكوس” بالقشتالية هم المسلمين الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط المملكة الإسلامية وخُيروا بين اعتناق المسيحية أو ترك أسبانيا.
وأما صورة الغلاف فان حبات الرمان المتناثرة لايمكن الا أن تحيلنا الى تناثر ممالك الطوائف تلك الممالك التي نشأت على أنقاض الحكم الأموي بالأندلس والذي وصل الى درجة من الرقي الحضاري والتقدم العلمي والفكري والفني ما جعل من الأندلس محجة العلماء والادباء والمفكرين والفنانين من كل أصقاع الأرض .فكانت بذلك الأندلس نموذجا في التسامح بين الأديان والأجناس المختلفة تفتقده اليوم أرقى الأمم تحضرا وتطورا. بعد قرون من الازدهار سرعان ما دب الوهن الى هذا الحكم الموحد فظهرت الممالك المتناحرة فيما بينها وملوك كل همهم المتع الدنوية فكانت النتيجة البكاء كالنساء على ملك لم يحافظوا عليه كالرجال. تشرذم فسح المجال لملوك الاسترداد المسيحي لتدعيم قوتهم وتوحدهم ضد “العدو” المسلم حينذاك. فكان تتالي سقوط الممالك الاسلامية وآخرها “غرناطة” وكان التعذيب والتنكيل بالمسلمين واليهود على حد السواء فنصبت محاكم التفتيش التي مورست خلالها ابشع أنواع التعذيب التي يمكن أن يرتكبها آدمي، محاكم تفتيش دشنت أولى حلقات الارهاب الأوروربي أو قل ارهاب “الرجل الأبيض” في حق “الآخر المختلف” عنهم في الدين واللغة. التنكيل لم يقف عند حد التنكيل بالبشر بل تجاوزه ليشمل المكتبات التي حوت صنوف العلوم والفنون والابداعات البشرية.
الرواية سردت فصولا من المأساة المورسكية أو مأساة الترحيل ص44 و57و56.وفي الباب الأخير من الرواية حيث تنقل البطلة عن جدتها “شورية” فصول من مأساة الترحيل عبر البحر “الذي صار شاهدا على جميع أحزاننا…” ص56 ذاك البحر الذي كان يوما بحرا عربيا، البحر الذي أصبح يلعب “دور الجسر الحامل لنكبات العرب من ضفة الى ضفة” كما ورد على لسان ريحانة في ص 57.
ان حضور الاندلس والشتات الأندلسي في الرواية، هو في رأيي، حضور غيابين، غياب على مستوى الزمن واحتياج الى الزمن العربي المحمل بالانجازات والذي غاب بغياب الاندلس ..لقد ضاعت الاندلس فكان ضياعها حدا فاصلا بين زمن عربي مجيد وزمن مر مضرج بالهزائم . هذا على مستوى الزمن أما على مستوى المكان فالأندلس هي آخر مكان في سفر مجد عربي تليد وحين سحبت سجادة ذلك المكان-الأندلس- من تحت أقدام العرب المسلمين سحبت معها سطور المجد لتنحو نحو ضد من الذل والهوان. فاستحضار الأندلس هو في الحقيقة استحضار لما يختزن في اللاوعي الجمعي للدلالات التاريخية لابداع حضاري أقيم بالأندلس، واستمر حولي 8قرون، ولايمكن استعادته. هو استحضار لحالة الهوان التي نعيش، والتي أفضت بنا الى شتات عربي آخر، شتات شعبنا الفلسطيني شتات لاتزال فصول روايته تكتب بأيادي عربية الى جانب أيادي العدو.
اذا تكامل انهيار الأندلس بسقوط غرناطة سنة 1492، وكان المحظوظ من أهلها من استطاع الهرب بحياته وأهله ومفتاح بيته إلى الضفة الجنوبية من البحر المتوسط.
في مدن مغاربية وتونسية ومنها مدينة منزل عبد الرحمان الاطار المكاني لبداية ونهاية الرواية ما زالت بعض العائلات الأندلسية تحتفظ حتى اليوم، بعد مرور أكثر من 500 سنة، بمفاتيح بيوتها الأندلسية التي هُجّرت منها حينذاك. مفاتيح العودة الى الأندلس ومفاتيح العودة الى فلسطين قصص تتشابه ومأساة تتكرر والضحية واحد.
صدى القضية الفلسطينية في رواية “أخر المورسكيات” نلمسه من خلال وجود شخصية “معاريف” ومعنى كلمة معاريف “المساء أو المغرب” انه غروب شمس حضارة أنارت العالم لكن الغروب والمساء والظلمة يخفي وراءه بزوغ فجر جديد قد يطول لكنه بالضرورة آت. معاريف اذا هي الجارة اليهودية والتي لعبت دورا محوريا في الرواية، فقد كان لها الفضل في انقاذ الاختين “شورية” و”روديسة” اعترافا ضمنيا منها بفضل المسلمين عليها كيهودية في الاستقرار والامن بعد قرون من الشتات. اذ انه وبعد الشتات الذي عاشه اليهود في العهد البابلي و خاصة في العهد الروماني حيث تفرقوا في بقاع الأرض وعاشوا في تجمعات مغلقة .إلا أن الذي كسر النمط اليهودي التقليدي وثقافته القومية المغلقة كان هو الحضارة العربية الإسلامية في أوروبا، في بلاد الأندلس، حينما للمرة الأولى تقريبا منذ الشتات الروماني اتخذ شكل وجود الجماعات اليهودية في أوروبا سمات القومية الواقعية، وسمحت لهم الحضارة العربية الإسلامية هناك بالتجمع من بقاع أوروبا المظلمة، فنهلوا من علوم الحضارة العربية، وأحيوا اللغة العبرية (عرفت بعبرية العصر الوسيط) مستفيدين من صلات القرابة بينها وبين العربية، وقلدوا الشعر العربي والمقامات ونشطوا في التأليف والكتابة، وبرعوا في الطب واعتلوا المناصب السياسية العليا في البلاط الأندلسي. ومن أهم الاسماء نذكر “حسداي بن شبروت”، الذي تقلد “وزارة المالية” في عهد الخليفة الأموي” عبد الرحمان الثالث” في قرطبة، كذلك نذكر”اسماعيل بن نغريلا” الذي كان وزير ملك غرناطة وقائد جيشه (انفتاح وفهم حداثي للأثر الديني باعتبار أن اليهود هم “أهل ذمة” وكانوا معفون من تقلد المناصب العسكرية ولكننا نلحظ هنا يهوديا يتقلد أعلى رتبة عسكرية في الدولة) . كما لايفوتنا أن نشير الى أن السلطان العثماني “باي يزيد الثاني” أرسل قائد أسطوله “كمال ريس” لانقاذ المسلمين واليهود دون تمييز من محاكم التفتيش وذلك سنة 1492، على حد السواء. ف كيف استطاع اليهود/ الصهاينة نسيان، أو نكران، تلك المرحلة الاستقرارية الفريدة لهم في الأندلس، من بين تاريخ حياتهم المشتت بين البلدان طوال قرون من التهجير؟ لماذا لم يكونوا أوفياء وفاء “معاريف” ؟
ما يجمع الشتاتين الفلسطيني والأندلسي هو البحر ذلك “البحر الحامل لنكبات العرب من ضفة الى ضفة” حيث لا يخفى على احد ما يشهده هذا البحر من موجات متلاحقة من اللاجئين والمهاجرين الفارين من جحيم الحروب -وكلنا يذكر صور جثامين أطفال سوريا على ضفاف شمال المتوسط- الباحثين عن فرص للحياة في الضفى الأخرى. مئات الجثامين التي يقذفها المتوسط من قوارب الموت الحاملة لشبابنا وأمل مستبلنا نحو الصفة الاخرى تطالعنا كل يوم… ما يجعل من قضية الشتات حالة انسانية تتكرر فيعيد التاريخ نفسه في شكل مهازل تساهم الانظمة العربية في نحتها.
حتى أختم اقول ان رواية “آخر المورسكيات” قد تناولت قضايا عديدة لم تات هذه الدراسة على شرحها مثل فكانت صدى لواقع ذاتي وموضوعي مأزوم. واقع ذاتي مأزوم باعتبار أن ريحانتنا التي بدأت مندفعة نحو الحياة والحب والنضال انتهت بها الرحلة الى اليأس من الأحزاب والساسة والأنظمة وانتهت في قبر ذات يوم شتوي ممطر. وواقع موضوعي مأزوم باعتبار أن العرب يخيطون فصول الشتات والهزائم بأيديهم وحتى ثورات الشباب الحالم بغد أفضل تم التآمر عليها واختطافها فغدى جنوب المتوسط بلاطا من الدسائس والتقاتل والهزائم.