تدوينات تونسية

الزيادة قد تقتل المريض… وتقضي على الطّبيب

فتحي الشوك

“الزّيادة تقتل المريض”… هي إحدى القصص الّتي كانت تسردها على مسامعنا جدّتي فاطمة رحمها الله و هي من تربّينا في أحضانها و قد لا تكفيها الكلمات لوصف أفضالها،حكاية مثل باقي حكاياتها الّتي تشدّنا اليها فنتسمّر حولها مشدوهين حتّى تغمض أجفاننا، سرديّات تمزج فيها بعضا من واقع وشيء من نسج خيالها، هي حكاية من الزّمن الجميل حينما كانت هي مصدر دفئنا من تقينا برودة اللّيالي القاسية ومن كانت هي مذياعنا وتلفازنا وهاتفنا “الذكي” وهي من كانت ترسم بريشتها عوالمنا وتنحت مخيالنا.
تقول القصّة أنّ إحدى النّسوة من جاراتها قد مرض ابن صغير لها لم يتعدّ عمره عدد أصابع يده الواحدة ممّا استدعى نقله إلى المستشفى ليصف له الطّبيب ما يناسبه من دواء وكان عبارة على قارورة محلول يتناول بجرعات محدّدة على مدى أيّام فما كان منها لفرط محبّتها لضناها واستعجالا للشّفاء الّا أن اسقته إيّاه مرّة واحدة لترسله مباشرة إلى قسم الطّوارئ حيث اجري له غسيل معدة بعد أن كادت تلحقه بأخيه البكر الّذي اختطفه الموت فجأة وهو رضيع في نومه.
زمن جدّتي فاطمة كان زمن “الفلّاية” والقمّل والصّوف والمغزل و”عبّود البسيسة” وكرة الجوارب والخذروف والمحبرة و”البلومة” وورق النشّاف وعصا سيدي المعلّم “مسعودة” الّتي طالما داعبت أطراف أصابعنا وقوّمت اعوجاجنا لنكتم ما أصابنا خشية أن يسمع بذلك آباؤنا فيضاعفوا لنا عقابنا.
زمن جدّتي فاطمة كان زمن “بابور الغاز” لمن استطاع اليه سبيلا ونار الحطب وقدر النّحاس المسودّة والطّابونة والمطمورة.
زمن جدّتي فاطمة كان زمن البطّيخ الفوّاح الّذي كانت واحدة منه تكفي لتفضح مقتنيها وتجبره على أن يذيق منها جارا له محروما أو ابنة “بكر” أو امرأة حاملا وكان كذلك زمن اجّاصنا “العربي” وخوخنا ولوزنا والتفّاح المميّز لذيذ الطّعم وقمحنا وشعيرنا وزيتوننا، بذور وشتلات انقرضت لتعوّض بأخرى غريبة هجينة ومخصيّة، بلا نكهة ولا رائحة ولا خصوصيّة، وزّعت في البداية بالمجان لنشتريها لاحقا بأغلى الأثمان مع ما تتطلّبه من مياه سقي ومواد كيمياوية لنكتشف ضررها وكأنّها مشروع للقتل البطيء قطرة قطرة يطال الإنسان من قبل مجرمين مخصيّبن مبتورين متوتّرين.
زمن جدّتي فاطمة هو كذلك زمن الدكتور تقي الله زاده ذلك الطّبيب الايراني الّذي قذفته الأقدار ليعلّمنا تطبيقيّا أخلاقيّات المهنة قبل أن نتلقّاها نظريا على مقاعد الدّراسة.
كان طبيبا مباشرا لجدّتي وللكثيرين والكثيرات، يستنجد به في جميع الحالات، فكان انسانا يلبّي نداء من طلبه ليزيل بعضا من وجعه ويساهم في رفع كربه ليكون آخر اهتماماته مقدار أجره.
قد تكون طوباوية صعبة التحقّق في زمن التوحّش لكنّه استثناء يحضر في ذهني بقوّة أمام زيادة مستفزّة في تسعيرة اطبّاء القطاع الخاصّ لم تراع مواطنا يقصف من كلّ الجبهات ويعصر حتّى الممات.
زيادة يراد بها تحسين وضعية قطاع متهالك ومهدّد بالانهيار وهي من المتوقّع ان لا تزيده الّا تأزّما ولن يستفيد منها الّا بعض الحيتان الكبيرة والتطبّب الذّاتي والطبّ الرعواني، أمّا غالبيّة اطبّاء القطاع الخاص فهم يعيشون من الصّعوبات ما يجعلهم يتمنّون الالتحاق بالقطاع العام والّذي منتسبوه أيضا ينتظرون لحظة تحرّرهم للالتحاق بالخاص، لنكتشف أنّ كلّ القطاع بعامّه وخاصّه ككلّ القطاعات الحيويّة الأخرى ينخرها الفساد المزمن والإفساد الممنهج في ظلّ منظومة فاسدة مفسدة تمارس فعلها منذ عقود.
زيادة في الاهمال والفساد والتّصحير للقطاع العام للدّفع نحو الخاصّ ثمً افساد للخاصّ للدّفع نحو خاصّة الخاصّ. بربّكم كيف لمرء يجد صعوبة كيف يوفّر ما يحتاجه من قوت يومه أن ينفق أكثر من مائة دينار ككلفة علاج لالتهاب لوزتين أو نزلة برد أو أيّ طارئ صحّي يعترضه مع قصور في التغطية الصحّية ومنظومة شبه متهالكة.
زيادة متسرّعة، تتّسم بفئويّة مقيتة وأنانية مفرطة وتمسّ بما بقي من روح معنويّة لمهنة هي انسانية بالأساس.
الزيادة قد تقتل المريض… نعم هي كذلك وقد تفعل نفس الشّيء بالطّبيب.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock