منجي الفرحاني
قصّة قصيرة
⚽
طفل صغير يلعب بكرته في فلاة على حافّة قريته الصّحراويّة.. يراوغ، يمهّد، يقفز، يقذف بقوّة، يصاب الشوّالي بهستيريا وهو ينقل المباراة على المباشر.. ولكن الكرة أخطأت المرمى وطارت خارج الملعب..
خطوط الملعب وشباكه ومدارجه مرسومة في دماغه الصّغير لا يراها غيره، لا ولا زملاؤه في الفريق ومدرّبهم الذي أراد له أن يكون أنيقا مبتسما متحمّسا على عكس مدرّب الفريق العدوّ الأصلع الأحول الشرّير ابن عمّ ابليس الرّجيم كما وصفته له أمّه وأكّدت المعلّمة ذلك في مدرسة الإنعتاق خلف كثبان السّراب..
قال له والده يوما إنّهم سمّوه سرابا لأنّه يخيّل لهم كثبانا وهو في الحقيقة مقبرة لنفايات أمّنا الغولة صاحبة العيون الزرقاء والوجه الأبيض من شدّة البرص، ثمّ عندما سأله ببراءة الأطفال عن معنى النّفايات صفعه صفعة لم يسأله عن شيء بعدها أبدا، لم يسأله حتّى ذلك السّؤال البريء الخطير: إن كانت أمّنا غولة برصاء فلماذا نحن عرب سمر؟
ثمّ يجيب في نفسه:
– أنا أمّي فاطمة السمّراء العرببّة بنت الصّحراء وأبي وإن صفعني اسمه أحمد وعندما أكبر سأعرف لماذا يخاف من الغولة!
ظلّ يتابع الكرة بعينيه البريئتين وهي تحلّق كالنّسر فوق الملعب ويحاول أن بجد طريقه بين الجماهير المكدّسة حول الميدان بلا مدارج تذكر وأعوان الشّرطة والحواجز حتّى اصطدم بلوحة اشهاريّة لأحد المنظّمات الحقوقيّة الغربيّة تتحدّث عن حقّ الشّعوب العربيّة في حياة الكلاب، لم يفهم منها شيئا فلغة الإعلان لم تكن عربيّة، غير أنّه أحسّ برغبة شديدة في التبوّل، فبال على كلب اللّوحة الإشهاريّة حتّى سكت عن النّباح المباح ثمّ واصل طريقه إلى كرته الظالّة..
كان فرحا بكرته، اشتراها له والده من سوق المدينة خلف كثبان السّراب، خلف المدرسة، خلف الواحة.. كان لونها رماديّا داكنا كتلك السّحب الكاذبة التي تطلّ على قريته وفي أغلب الأحيان لا تمطر…
حملها إلى شيخه الذي علّمه القرآن قبل أن يغلق أبناء الغولة البرصاء كتّابه.. كان يرسم لهم الحروف بألوان زاهية ويحدّثهم عن الكرة الأرضية بواحاتها وغاباتها وبحارها وعربها وعجمها وبيضها وسودها وكيف أنّهم عند اللّه سواسية وأنّنا لو نجحنا في رسم الحروف زاهية في كراريسنا سنكبر وننجح ونكتشف سرّ الكرة الأرضيّة ونعرف ناسها..
- سيدي الشّيخ، ارسم لي الأرض على كرتي…
- حاضر يا بنيّ، سأرسمها لك زاهية بلا حروب ولا صغائن ولا فتن عساك تكبر وتحافظ عليها كذلك..
أبدع الشّيخ في فنّ الرّسم وفرح الطّفل بكرته فرحا عظيما حتّى أنّ والده لم بتعرّف عليها..
– لو كانت بهذا الجمال في السّوق لما قدرت على ثمنهاّ، حافظ على كرتك جيّدا يا بنيّ فإنّ المتربّصين والحاسدين كثر..
استقرّت الكرة وسط مجموعة من الصّبية المراهقين..
قال الأوّل:
– هذه لي، أنا رأبتها الأوّل وهي تحلّق في السّماء..
قال الثّاني بعد ان صفع الأوّل على وجهه:
– بل هي لي، كيف تجرؤ على الكلام في حضرتي يا وغد؟!
تقدّمت مراهقة تفوح أنوثة وعطرا وقالت:
– بل هي مهر قبلة منّي على عجل لمن ينفرد بها لنفسه ويهدينيها ثمّ تقدّمت من الكرة ووضعت على محيطها المتجمّد الشماليّ كعبها العالي فبدأ يذوب مهدّدا بكارثة مناخيّة عاصفة..
عشرات المراهقين يتحاربون من أجل كرة يقدّمونها قربانا لمراهقة حسناء من أجل قبلة على عجل..
كانت الدّماء كلّما سالت من وجوههم وأجسادهم تخترق جسد الكرة تحت كعب الحسناء..
بعد معارك طاحنة، سقط الصّبية جميعهم أرضا لم ينتصر منهم أحدا فغضبت الحسناء ورفعت كعبها عن الكرة بعد أن شكّكت في رجولتهم ثمّ غادرت المشهد غاضبة.. في تلك الأثناء تقدّم الطّفل وأخذ كرته، مسحها بطرف قميصه حتّى عاد إليها بريقها ثمّ قبّلها قبل أن يخرج مسدّس العيد الذي اشتراه له عمّه الفارس والتفت إلى الصّبية المراهقين ووجّهه صوبهم ثمّ خاطبهم بنبرة غاضبة:
– العبوا ما شئتم وبما شئتم ولكن ليس بكرتي الأرضيّة.. واضح؟!
فردّوا على صوت رجل واحد:
– واضح…
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.