في الذّكرى الثّامنة والثّلاثين لتأسيسها
سامي براهم
لماذا بقيت النّهضة عصيّة عن الانقسام والانكماش والتلاشي رغم كلّ ما مرّ بها من محن ومصائب وصعوبات وهزّات ومؤامرات وخلافات داخليّة ؟
الخلفيّة العقائديّة الممتزجة بسرديّة المظلوميّة وذاكرة المحنة ليست تفسيرا مقنعا وإلا لما افترق الرّعيل الأوّل من الأسلاف واقتتلوا وبينهم أمّ المؤمنين وابنة النبيّ وابن عمّه وخيرة المبشّرين بالجنّة من الصّحابة أنصارا ومهاجرين ممّن تربّوا في مدرسة النبوّة وحملوا رسالة التأسيس ولواءه،
نحتاج تفسيرا أكثر استيعابا لسوسيولوجيا التنظيمات والحركات السياسية ذات العمق الاجتماعي والسرديّات الكبرى لفهم أكثر موضوعيّة وانسجاما مع الواقع.
في تقديري الأجسام الحيّة التي تتجدّد تحمي نفسها من التهرّم والوهن والتلاشي والانكماش، وحياة الأحزاب وتجدّدها فيما تمارسه من نقد ذاتي ومراجعات وما تنجزه من تطوير لرؤاها ونسق فعلها وانتظامها وتفاعلها مع حاجات واقعها وانفتاحها على مستجداته سواء من موقع الإكراه والذّرائعيّة أو الوعي الذّاتي والمبدئيّة،
وللنهضة نصيب من هذا رغم خلافاتها الدّاخليّة وتسرّب أمراض الحياة الحزبيّة التّونسية إليها ممّا يساهم في تأجيل الانقسام أو اجتنابه وحسن تصريف شحنة عدم الرّضى والخلافات الدّاخليّة إلى حين، ربّما كذلك لاختيارها قواعد صلبة وإن كان يغلب عليها الطّابع الشكليّ لحسم هذه الخلافات.
مازالت النّهضة بعيدة عن الانتظام المدني الفعلي والاحزاب الدّيمقراطيّة العصريّة، لكنّها ليست أبعد من غيرها وليس أدلّ على ذلك من مرورها بكلّ الاختبارات الصّعبة بأخفّ الأضرار الممكنة على خلاف منافسيها الذين انقسموا وانقصموا وانفصموا أمام أبسط التحدّيات.
النّهضة “أقوى الضّعفاء” والعبارة من اللائحة التقييميّة للمؤتمر العاشر للحزب، بما تمتلكه من قدرة فائقة على امتصاص الأزمات واستيعاب التناقضات وتصريفها وتحويلها إلى مكاسب وعوامل قوّة.
هذه القدرة على الاستيعاب والمهارة في التّصريف والتّحويل هي التي تحتاج دراسة عميقة وتحليلا منهجيّا متناسقا لفهم الحراك الدّاخلي لهذا الجسم السياسي وتفكيك مفرداته وتفاعلاته، هذا في تقديري أفضل من المقاربات التبسيطيّة المؤدلجة المحكومة بسطحيّة الخطاب السياسويّ العاطفي والدّغمائيّ لكثير من خصومها، وهو أفضل كذلك لأعضائها وأنصارها من الخطاب الانتصاري والاتّكال على القاعدة الجماهيريّة الآخذة في التقلّص جرّاء الخيارات السياسيّة الملتبسة،
الأجسام الجامدة التي لا تتحرّك تصاب بتخثّر الدّم وتصلّب الشرايين والجلطات الدّماغيّة ممّا ينتج عنه الشّلل أو الموت، العديد من أحزاب ما بعد الثورة ولدت ميتة أو انفجرت بعد ولادتها أو تهاوت أمام هبوب ريح عاصفة، وبعضها يعاني من الشّلل أو توقّف النموّ والتخلّف الذّهني والتشوّه الخلقي، أو الموت السريريّ، وبعضها يقاوم تحدّيات التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة النوعيّة لما بعد ثورة السّابع عشر من ديسمبر،
ومن يعبر منها بسلام أو بأخفّ الأضرار سيطول عمره السياسي الافتراضي ويكون له دور متقدّم محليّا وإقليميّا ويسهم في رسم مشهد المستقبل.