مقالات

تمخّض الجبل فولد فأرا !

فتحي الشوك

انعقدت في مكّة المكرّمة في الأسبوع الماضي قمّتان عربيّة وخليجية طارئتان وأخرى إسلامية عادية، قمم تضاف إلى قمم صارت تؤرّخ للفشل بل ونذير سقوط جديد وصار مجرّد انعقادها هو ما يحتسب نجاحا في حدّ ذاته. قمم تعقد في ظلّ وضع إقليمي وعالمي متقلّب وشديد التوتّر مع مخاطر تهدّد الجميع ووضع متأزّم يزداد تعقيدا. ولا شكّ أنّ أشدّ المتابعين تفاؤلا لا ينتظرون حلولا ممّن هم أضلع أساسية في لبّ المشكل لكن لا يمنعنا ذلك من التّساؤل حول جدوى مثل هذه الاجتماعات الكرنفالية وهذه التّخمة من القمم في زمن ضحكت منّا جميع الأمم.
قمم مكّة الطّارقة:
كان من المنتظر عقد قمّة إسلامية عادية في موعدها المحدّد (يوم الخميس 30 مايو 2019) فما الّذي دفع الملك السّعودي إلى الدّعوة لانعقاد قمّتين خليجية وعربيّة طارئتين؟
طبول الحرب تقرع والمنطقة بأكملها على كفّ عفريت بعد الهجومات الّتي طالت ناقلات ومنشآت نفطية في الإمارات والسّعودية والموقف الأمريكي شديد الضّبابية يتّجه أكثر نحو خيارات الحلب أكثر من المواجهة والحرب وقد تراءى للمسؤولين السّعوديين والإماراتيين ولكلّ المتحمّسين للحسم أنّ استصدار قرار جماعي خليجي، عربي أو اسلامي قد يدفع الولايات المتّحدة الأمريكية لأن تتّخذ موقفا أكثر وضوحا وصلابة، ويبدو أنّ خشية السّعودية من عدم حصولها عمّا تبغيه من قمّة إسلامية تحضرها إيران وتركيا وماليزيا قد جعلها تستبق الأمور وتدعو على عجل إلى قمّتين خليجية وعربيّة طارئتين لعلّها تبلغ من خلالهما المقصود.
المتغيّرات المتسارعة في المنطقة والرّغبة الجامحة في تحقيق صفقة القرن قد تفسّر الاستعجال في الزّمان أمّا فيما يخصّ اختيار المكان أي مكّة قبلة المسلمين فهو استغلال لرمزيتها واستمرار في نهج تسييس الحرمين من قبل الّذين من المفترض أن يكونوا في خدمتهما فوظّفوهما في خدمتهم.
هي قمم “طارقة” كما وصفها الملك سلمان وهو يفتتحها بعد أن شكر فخامة الرّئيس التّونسي الباجي قايد “السّيسي”، الملك الّذي قرأ كما قيل أكثر من 120 ألف كتاب والّذي اشترى شهادة جامعية من تونس في آخر قمّة عربيّة انعقدت هناك منذ أشهر قليلة.
السّعودية تستضيف كلّ تلك القمم وهي قادرة على الحشد بتذاكر السّفر والإقامة ومصروف الجيب للبعض مع عمرة مجانية لمن أراد فالمال كثير ولا خوف من الفقر وبعض كمّيات النّفط الّتي تسرّبت نتيجة هجمات تدخل في باب ردّ الفعل الطّبيعي على عدوان مستمرّ على الشّعب اليمني تستدعي هذا الاستنفار ولا سبيل إلى مقارنته بأنهر الدّماء الّتي تسفك هنا وهناك في سوريا وغزّة واليمن وليبيا والسّودان ومينمار والصّين.
وبمنطقنا العربي المتخلّف فصاحب الدّار أولى بالتبجيل وبتمرير القرار حسب مزاجه وهواه، لذلك كانت القرارات المعدّة سلفا معلّبة وجاهزة، والبيانات الختامية تمّت قراءتها دون عرضها على النّقاش بل تمّ إلغاء تدخّلات بعض الملوك والرؤّساء بحجّة عطب فنّي أصاب فجأة الميكروفونات كالعطب الّذي عطّل تقنية الفيديو في ملعب رادس خلال نهائي كأس افريقيا، فالأعطاب في أوطاننا العربية تحدث دوما صدفة وهي دوما في صالح صاحب الأرض.
قرأ أمين عام منظّمة التّعاون الإسلامي يوسف العثيمن بيانه الختامي في أقلّ من ثلاث عشرة دقيقة جعل ربعها مدحا لصاحب الأرض والفضل وبقيّتها لما تعوّدت عليه آذاننا من عبارات التّنديد لما تتعرّض إليه السّعودية من مخاطر هي في النّهاية جراء ما كسبت أيديهم.
حضرت القضية الفلسطينية باحتشام شديد من باب دفع الحرج وغابت أكبر أزمة إنسانية في عصرنا الحديث الّتي يشهدها اليمن “السّعيد” وغيّبت مذابح ادلب وما يقع في طرابلس وما يتعرّض اليه المسلمون في الصّين بل وصلت بهم الدّناءة إلى مدح الرّئيس الصيني لمجرّد إرساله برقية تهنئة للقمّة.
تمّ تفصيل القمم على مقاسات من طلب انعقادها وكان مطلوب من الضّيوف أن يكونوا شهود زور وكمبارس يبارك ما تمّ خطّه مسبّقا من قرارات وأهمّها التّصعيد مع إيران ومحاولة وضعها في الزّاوية، موفّرين بذلك صكّ على بياض لترامب المقامر اللّعوب مع مناشدته بالإسراع في الحسم ودفعه نحو مواجهة الخصم.
أمّا فيما يخصّ اليمن وليبيا وكلّ الحرائق الّتي أشعلتها السّعودية والإمارات ومعسكر الثّورة المضادّة في كلّ بقعة من الأرض يتطلّع أهلها لحياة حرّة كريمة، فغاية من نظّموا تلك القمم أن يقولوا للعالم أنّهم مفوّضون لذلك وعليه أن يسندهم أو يصمت.
ما علق في الذّاكرة:
غالبا ما كانت قرارات القمم الخليجية والعربية والإسلامية لا ترتفع إلى قيمة الحبر الّتي يكتب بها وهي في العادة لا تصلح الّا لمسح البلّور، تسمع جعجعة ولا ترى طحينا وليست هذه المرّة الّتي ستخرق القاعدة برغم جدّية الأخطار المحدقة بالمنطقة.
دوما ما تفرزه تلك القمم جملة من الانتهاكات للّغة العربية بل اغتصاب لها لمن مرن وتعوّد على اغتصاب اللّغة والوطن والدّين، مع بعض المواقف الكوميدية كالّتي نشاهدها في سلسلات الكاميرا الخفيّة.
ما سيبقى محفورا في الذّاكرة أيضا من خلال متابعتنا لتخمة القمم الحالية هي بعض المواقف المشرّفة والنّبيلة لبعض من حضر وكان نجمهم رئيس الوزراء القطري عبد الله بن ناصر الّذي خطف الأضواء بحضوره المميّز وجعل الجميع يرفع له القبّعة حينما رفض أداء العمرة تضامنا مع من يمثّّلهم ممّن منعوا من أدائها وحرموا منها.
كما لفت الأنظار أيضا رئيس الوزراء الماليزي الّذي على عكس البقيّة اعتمر دون حراسة وبلا مواكب كأيّ من عامّة النّاس.
وما لا يمكن للملك سلمان نسيانه تلك الكلمات الّتي كالها له رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان بعد أن جلد ابنه ولي العهد عندما التقاه في مرّة سابقة.
هي قمّة أخرى للنّسيان عمّقت الأزمة وجلّت الفرقة و زادت في الانقسام، تمخّض الجبل فولد فأرا ! ربّما هو التسرّع والحماقة المتجذّرة والغباء المفرط ما يجعل المرء يفقآ عينه بإصبعه.
ساعات بعد انعقاد القمم ردّ الحوثيون بصاروخ باليستي دكّ محطّة كهرباء بجيزان لتدخل معظم مناطق الجنوب السّعودي في ظلام دامس.
يوم واحد بعد كرنفال الاجتماعات وحملة المناشدات يجيب وزير الخارجية الأمريكي باستعداد الولايات المتّحدة الأمريكية للحوار مع إيران دون شروط مسبّقة بعد أن تمكّن ممّن سلّموه نواصيهم بلا قيد ولا شرط.
اتّهامات مرسلة لم تحرّك لإيران شعرة، أمّا حليفتهم القديمة الجديدة “إسرائيل” فأجابت بأن سمحت لحوافر المستوطنين بتدنيس المسجد الأقصى وهي من خبرت عمالة وخيانة من فقدوا جينات المروءة والشّهامة.
قمّة ككلّ القمم لا تعنينا قد زادت الوضع تعقيدا، وكان من الممكن أن يوظّف المجهود المهدور فيما يفيد، قمم قمم، ثلاثة في واحد جعلتنا أضحوكة بين الأمم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock