تونس ما بعد إنتخابات 2019 : سيتكرر العبث بعد نسيان واجب المصالحة الوطنية الشاملة (1/ 2)

نور الدين الختروشي

1. المصالحة الوطنية الشاملة : لعبة التناسي وفضيحة التحايل :
لما دعى المؤتمر الخامس لحركة النهضة في المهجر سنة 1995 للمصالحة الوطنية الشاملة لم يلتفت نظام بن علي القوي يومها ولا باقي مكونات المعارضة لتلك الدعَوة واعتبرها أغلب المراقبين مجرد مناورة من النهضة المطاردة والمنهكة والمشتتة بين المنافي والسجون.
أثبتت النهضة من خلالها مسلكها السياسي طيلة سنوات حكم المخلوع ان ذلك الشعار كان الموجه السياسي لخياراتها خطابا وممارسة. ولم يكن التوقيع على وثيقة 18 اكتوبر الشهيرة سوى تتويجا لمسار تفاعل ايجابي بين أهم مكونات الساحة الايديولوجية والسياسية، وأشّر بالنهاية علي قناعة “تونس المناضلة” في الداخل والخارج بأن تونس المستقبل تتسع للجميع، وأن بناءها يتطلب أولا خروج الجميع من خندق التنافي والإقصاء، إلى افق الاعتراف بحق الجميع في بنائها علي مشترك وطني صلب، جوهره التعاقد على الثوابت الوطنية، ومكاسب الحداثة في اطار المنشود الديمقراطي. وقد عزل نظام بن علي نفسه عن هذا المسار وفضل بغباء مواصلة سياسة قمع الجميع إلى ان أطاحت به الثورة.
كان منتظرا بعيد الثورة ان تجتمع تونس المناضلة ضد الاستبداد بيمينها ويسارها ووسطها على أرضية عمل مشترك لبناء تونس الجيدة، تواصلا واستمرارا مع مسار التقارب الذي توجته مبادرة 18 اكتوبر.
ولكن ومع فوز النهضة في انتخابات التأسيسي سقط حلفاؤها زمن الاستبداد في امتحان الانسجام النظري والسياسي مع خلاصات مسار الالتقاء التاريخي بين الاسلاميين وبقية مكونات الخارطة الايديولوجية والسياسية الذي شهده زمن النضال المشترك ضد نظام القمع.
كان مدهشا حد الصدمة لنا أن تعود الاطراف التي وقعت مع الاسلاميين عقد المشترك الوطني سنة 2005 الي متاريس الفرز الهووي والايديولوجي بخطاب حرب شاملة ضد حركة النهضة، بل وسقطت الاطراف المنسوبة لعنوان التحديث والعلمنة في استدعاء وتجميع المنظومة الصلبة للاستبداد وتحالفت معها في اعتصام باردو الشهير سنة 2013 للاطاحة بالنهضة ولو بثمن الردة علي منجز الحرية الذي حققته الثورة ذاته.
من هناك َعند هذه النقطة بدأ مسار العبث الذي يخيم علي المشهد اليوم، ويكاد يعصف بالمركب الوطني وراكبيه.
كان موكولا لمسار العدالة الانتقالية ان يحقق مطلوب التاريخ في استكمال شرط المصالحة الوطنية الشاملة ليستقر اجتماعنا السياسي الوطني على ثوابت عقده الاجتماعي والدستوري الجديد في ولوج زمن الديمقراطية والحداثة السياسية.
ما شهده مسار العدالة الانتقالية من عبث ومزايدات لم يكن سوى التعبير السياسي المباشر على شقاء وعي النخب السياسية التي وقفت تاريخيا ضد الاستبداد وسقطت بعد الثورة في امتحان الحرية.
المصالحة الوطنية الشاملة تعني التوافق التاريخي علي ثوابت اجتماعنا الوطني بين القوى الممثلة ايديولوجيا وسياسيا للحقيقة الوطنية بعد الاستقلال والتي تبلورت في ثلاثة مدارس اساسية المدرسة الدستورية والمدرسة اليسارية والمدرسة الإسلامية.
كان تحالف اليسار التونسي المعلن والخفي مع الدستوريين في السنوات الاولى لحكم المخلوع تحت شعار ديمقراطية بدون أصولية لتصفية الاسلاميين قد انتهى الى فضيحة الدكتاتورية التي دارت رحاها فسحقت الاسلاميين اولا ثم شملت الجميع، وانتبه اليسار التونسي في نهاية التسعينات الي الضرورة التاريخية لأولوية الحرية كشرط وجود، قبل ان يكون شرطا لانجاز العدالة الاجتماعية.، وكان اضراب الصحفي بن بريك الشهير؛ بداية مسار جديد في التحام المتضررين من الاستبداد علي ارضية الحقوقي بداية ومن ثمة علي ارضية السياسي الذي قعدته وثائق مبادرة 18 اكتوبر.
كان هذا ملخص قصة ما بدى يومها من انجاز ناريخي تونسي فريد في المحيط العربي حيث تفاءل المتفائلون بتحقيق فكرة الكتلة التاريخية التي انتهى لها زمن المراجعات والنقد والذاتي الذي ادمنته حركات التغيير في المحيط العربي منذ هزيمة 67 الي تسعينات القرن الماضي.
لا ادري مدى قسوة حكم الأجيال القادمة على اليسار التونسي عندما تلاحظ حجم الخطأ التاريخي بالردة الاخلاقية والفكرية والسياسية على ما وقعه ذات يوم 18 اكتوبر 2005 مع الاسلاميين بمجرد وصولهم للسلطة عبر حكم الصندوق في اول امتحان ديمقراطي في تاريخنا السياسي الحديث. ولكن الثابت ان ما شهدته تونس منذ الثورة الي اليوم سيكتب من زاوية الخديعة التاريخية والعبث بالعقل وليس من باب التجاذب السياسي ومكر يومياتها.
ولا ادري مدى الفائدة اليوم من التذكير بأن تونس الجديدة بصدد الضياع الناريخي في ضباب عبث نخبها بالحال والمآل، لأنها قفزت على شرط المصالحة الوطنية الشاملة كمقدمة للقيام على واجب الذاكرة اعترافا بالأخطاء وتتحررا من ثقل صفحاتها السوداء، لتنطلق لبناء المستقبل على ما حصحص من دروسها و ومقتضياتها الأخلاقية النظرية والسياسية. لكن الثابت اليوم وبحواصل المنجز الوطني بعد الثورة، اننا أمام حالة تحايل تاريخي قذرة تحيل على انفصام مرضي في الوعي وازدواجية منافقة في الممارسة حواصلها ما نعايشه الآن من عبث معمم علي المشهد السياسي الوطني.
دفعت ضرورات السياسة وحساباتها الي لقاء شاحب في غرفة باريسية مغلقة بين الشيخين وخرج منها عنوان التوافق كرافعة وقتية لتجنب مكروه المباراة بالدم الذي وقفنا عند حده في أواخر العهدة التأسيسية ونسينا في خضم ابتهاجنا بالنجاة من سديم التحارب واجب المصالحة الوطنية اولا الذي انتبهنا اليه زمن الاستبداد ووعيناه وكتبناه في سردية المراجعات العميقة والقاسية في مواجهة انفسنا اولا واستجابة لشرط التاريخ.
أبتدعنا عنوان التوافق السياسي لنقفز على شرط المصالحة الوطنية فكان خطأنا المنهجي المفزع وكان منه ما نتابعه اليوم من سردية العبث المعمم بالمصير.
(يتبع)…
الرأي العام

Exit mobile version