في البدء كانت الكلمة ..
علي المسعودي
في البدء كانت الثورة… ثم قتلها إعلام مأجور!.
أول حادثة تعتيم إعلامي، كانت زمن قابيل وهابيل. فما كان لجريمة القتل الأولى في التاريخ أن تمرّ لولا تدخل الغراب، رجل الإعلام في ذاك الزمن، ليعلم القاتل كيف يُخفي من معالم جريمته كل أثر !.
في كل عصر بعد ذلك، ما يفتأ هذا الغراب يحمل أسودين: رداءا قبيحا عنه لا يحول، وحقدا أبديا ضد وجه الحقيقة المليح، فيشوهه أو يطمسه أو يخفيه.
ولكنّ غراب الإعلام له أخت شقيقة هي الحمامة الزاجلة. هو الشيطان وهي الملاك، غير أنها ضعيفة، مهيضة، وتموت عادة خنقا في عمر الزهور !!.
عاشت حمامة الإعلام خفاقة في سماء الثورة الفرنسية، وأججت في النفوس روح التمرد على بشاعة السلطة الغاشمة.. ولكن نابليون اصطادها وحولها إلى دجاجة الحكومة التي تبيض حقيقة زائفة، ومازالت داجنة إلى اليوم.. فنصف الإعلام الفرنسي تابع للسلطة أو تتحكم في تفاصيله عبر القوانين والمؤسسات ذات العلاقة !.
أما تاريخ السلطة في تونس بعد الاستقلال، فهو تاريخ إعلام أسود مصاب بعمى الألوان.. هو من صنع من بورقيبة زعيما مقدسا، بل نصف إله. ولولاه لما أمكن لهذا الشعب “المتعلم” أن يستمتع بمتابعة توجيهات الرئيس، أو عكاظيات شهر أوت، أو ينسى بؤسه وهو يتابع في طرب حصص السباحة للمجاهد الأكبر في شاطئ صقانس المنستير !!.
كانت تلك عصا السلطان، وكانت دعامة الحكم الأولى والصولجان. ولم يختلف الأمر مع الجنرال ساكن قرطاج الجديد. فقد صنع غربانه الناعقة، وأصبغ عليهم أموالا دافقة حتى أصبحوا مثل الكلاب المدربة، لا تعصي لسيدها أمرا، وبالإشارة تفهم المعنى والمرمى.
•••
قامت الثورة، وما كان لها أن تحدث لولا فتحة تهوئة في غرفة الإعلام المظلمة اسمها : الفايسبوك.
للأسف، تغافل الثوار عن هدم هذه الغرفة على رؤوس أصحابها، عجزا أو استسهالا، حتى امتلأت سماء الإعلام بكل غراب ناعق أو ناقر في جسد الثورة المنهك بالجراح. نفس الوجوه ارتدت لباس الثوار ثم طعنتهم من الخلف كما يفعل كل جبان.
هذا الإعلام المُفْسد الفاسد هو من يصنع المشهد السياسي برمته اليوم، وهو من يصنع الزعامات التي تستطيع تسيير أربع دول !. لقد استثمر طيلة الوقت في أفق التونسي الذي ضيقته تجربة إعلام أعوام الاستبداد الطويلة فما عاد له نظر أبعد من وقع القدم !.
أصبح التونسي ساذجا إلى حد العته، فنصف الأخبار التي يتداولها الإعلام زائفة أو مظللة، ومع ذلك يصدقها ويجد لها هوى في نفسه حتى تجرأ على ذكائه كل “عرقوب” في الصحافة أو “سجاح” !.
الثورة اليوم هي جسد يترنح بفعل ضربات الإعلام.. والإجهاز عليه مسألة وقت بعد أن استبيحت كل المحرمات الثورية في منصات الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية. ولنا أن نسأل بعمق: هل يصح الحديث عن ثورة لا تقضي على إعلام النظام القديم ؟ ثم كيف تعجز الثورات إلى هذا الحد عن خلق إعلام بديل ؟؟
•••
في البدء كانت الثورة، ثم قتلتها أمراض الزعامة والخيانة وأطماع قادمة من وراء الحدود !.
كان دانتون منقذ الثورات !
وكان ميرابو هرقل الحريات !
وكانا خطيبان مفوهان.
وكان مارات صديق الشعب !.
كان الناطق باسم الثورة، وإعلامها البديل.
كان دانتون مؤسس المحاكم الثورية الأولى في التاريخ، وكان منظر حقبة الإرهاب الثوري.. وكان يقول: فلنكن ارهابيين ضد العدو حتى لا يكون الشعب نفسه ضحية الإرهاب !.
وكان لميرابو فضل صياغة ديباجة إعلان حقوق الانسان والحريات !
وكان يقول: الاستبداد ليس شكلا من أشكال الحكم، ولو كان كذلك لأصبح الحكم نوعا من الإجرام المقنّن.
ومع ذلك، فقد ثبت في ما بعد أن هؤلاء الثلاثة فاسدون، ومتهمون بالعمالة للملك لقاء رشى وأموال، وأن ميرابو كان مستشارا ملكيا في الخفاء وقد نصحه بالهروب للإجهاز على الثورة لا حقا !!.
هذا عن الثورة الفرنسية التي ارتوت حتى الثمالة من دماء النبلاء والقسيسين، فكيف بثورة تونسية كل زعاماتها جزء من النظام القديم ؟؟.
الذي يحكمنا اليوم، ليس جزءا واحدا من النظام، بل كل النظام.. فالمعارضة نفسها هي إرث قديم !.
كل زعامات النضال كانت صَلَاتُها للحرية، ولكن طعامها الدسم من قصر الجمهورية !.
قال دانتون وهو يقاد إلى المقصلة: إن الثورة تأكل أبناءها ! وقد ذهبت مثلا لكل الثورات..
واليوم لا نحتاج إلى مقصلة لفرم الأبناء.. أحيانا تكفي الخصومات الأبدية ومعارك الزعماء !!.
وها نحن على أبواب انتخابات، ويوشك الموالون للثورة أن تذهب ريحهم إلى الأبد، ويوشك أن يظهر مستشار مثل نابليون، لنناشده تخليص البلد !..
•••
في البدء كانت الثورة.. ثم يأتي الحصار !.
كانت الثورة الفرنسية ثورة البورجوازية الناشئة وانخدع بها العمال والمهمشون!.
كانت ثورة البورجوازي الذي يقاتل النبلاء بأجساد المفقرين.
وكان على هذه الطبقة أن تواجه خصمين :
– العدو الخارجي ممثلا في ممالك أوربا التي تخشى أن يبتلعها المد الثوري العظيم.
– فقراء باريس والمدن البعيدة والذين وضعوا كل بيضهم في سلة الثورة، ولن ترضيهم العودة بخفي حنين.
كانت ثورة الفوندي الملكية أخطر تهديد امتزج فيه الخارجي والداخلي، وكان هجوم ممالك أوربا على باريس أشد خطرا من ذلك. ولكن روبيسبيار ودانتون استطاعا احتواء الخصمين بأن ضربا الأول بالثاني.
فنجاح الثورة كان بفضل عزم فقراء الجمهورية وبسالتهم، وبفضل دمائهم التي سالت في الساحتين.
وهكذا تم تحييد الخطر الداخلي والخارجي معا.. أما من بقي من ثوار الشوارع في باريس فقد تم ادماج الآلاف منهم في الحظائر الظرفية لتنشغل البورجوازية بسنّ قوانين سلطتها في هدوء !.
في تونس كانت المخاطر هي نفسها وإن كانت الطبقة المستفيدة أسوأ من سابقتها !، فقط الجغرافيا جعلت من خطر ممالك الخليج التي فر إليها المخلوع بعيد التحقق.. ولكنهم استطاعوا في النهاية أن يفتحوا جبهة في الشعانبي وسمامة مثل جبهة فوندي !.. إنها ثورة الإرهاب المصطنعة والتي يشتد عودها مع كل انتخاب !!.. وهي غير قابلة للحسم في المدى المنظور، فالأيادي التي تحركها لم تفقد الأمل في احتواء الثورة التونسية إن يقصر الدهر أو يطول.
هذا الإرهاب استهلك الثورة أو كاد. فلحاف الميزانية نصف لحاف، إن مددته للإرهاب، سقط ضحايا في الصحة والتعليم، وإن مددته للخدمات سقط ضحايا في الشعانبي وجبل السلوم !!.
ولكن مقولة الوطن في خطر، التي صدح بها دانتون أيضا، أتت أكلها من جديد. فالجميع منشغل بهذه الحرب الضروس، والوطن أولا أصبحت عقيدة لدى الغني والفقير. وأما من مازال يخشى منه الاحتجاج والتشويش، فقد تم إدماجه في الحظائر الظرفية حتى تبقى الطرق مفتوحة، وينشغل النواب بسن قوانين تحت الطلب !.
تلك هي قصة الثورات : في ظاهرها أخبار متفرقات، وفي باطنها نظر وتحقيق !.