الدولة المدنية في مواجهة العسكرة.. الجيش التونسي في محيط من الانقلابات
لطفي الحيدوري
أظهرت التطورات الإقليمية الأخيرة، أنّ حالة عدم الاستقرار سيطول أمدها، وأنّ الحوارات الداخلية، والمحاولات الجماعية، في إطار الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، لإدارة الأزمات العالقة، لم تفض إلى حلول جادة ومقنعة، بل إنّ المنطقة متجهة إلى مخاضات لا تزال التكهنات غير جازمة بشأنها وهي رهينة الإرادات والتدخلات.
الطرفان الرئيسان فيما يجري حاليا هما الإرادة الشعبية والمؤسسة العسكرية في أكثر من بلد، الجزائر والسودان وليبيا. هناك حيث الجيش يحاول إدارة الأزمة في بلد ويستعيد المبادرة في بلد آخر، ويحاول خلط الأوراق والعودة إلى الوراء في بلد آخر.
ويراقب التونسيون هذه التحولات المحيطة بهم، وهم قد عاشوا كثيرا من التقلبات في تاريخهم المعاصر، كانت المؤسسة العسكرية منضبطة للدولة، محايدة في الصراعات، ولم يبد الجهاز تحركا صريحا طمعا في إدارة الحكم. تلك العوامل هي التي جعلت من مؤسسة الجيش التونسي تحظى بنسبة هائلة من ثقة التونسيين على حساب السياسيين والأحزاب والشخصيات الوطنية، وحتى المؤسسة الأمنية.
وقد تضافرت عدة عوامل تاريخية أهّلت المؤسسة العسكرية التونسية لهذه المكانة الوطنية، كانت بداياتها منذ بدايات الاستقلال، فلم تخض تونس معركة مسلحة منظمة ضد الاستعمار الفرنسي تخوّل لمن قادها شرعية التحرير والمكانة في إدارة البلاد في دولة الاستقلال، وقد سعى الحبيب بورقيبة إلى النأي بنفسه وبحزبه عن أي مغامرة قد تضرّ بمكانته وبوجوده قبل وصوله السلطة، وكانت المناورة التي أقدم عليها في بنزرت سنة 1961 بما سمي معركة الجلاء، لاستعادة صورته بطلا للتحرير، وبالا عليه، عندما زاد التذمر في أوساط حركة التحرير وبعض العسكريين من النواة الأولى للجيش الوطني، أدّت إلى محاولة انقلابية أولى سنة 1962، كانت سرعة المحاكمة التي تلتها وتنفيذ الإعدامات، تدشينا لحكم الفرد المدني.
وقد عمل الحبيب بورقيبة على إبعاد الجيش وتحييده عن الحياة السياسية، وعدم توفير الإمكانيات المناسبة له، رغم قوة تسلّج الجوار، فصان حكمه من أن تناله مطامع مصدرها القوات المسلحة. وفي المقابل عزز المؤسسة الأمنية وغذّاها بالإطار العسكري، فنالت منه، بعد 30 سنة من حكمه، وزارة الداخلية بقيادتها العسكرية.
ولئن كانت المؤسسة العسكرية على الحياد سياسيّا، إلاّ أنّه تم استدعاؤها في مناسبتين لإخماد التحركات الشعبية، عند الإضراب العام في جانفي 1978 وفي انتفاضة الخبز سنة 1984، وفي كلتا المناسبتين كانت فرصة صعود جنرال عسكري، لم يتحمّل قيادة مؤسسة كبيرة داخل الجيش، على رأس مسؤوليات حساسة في وزارة الداخلية.
وعندما أصيب الحبيب بورقيبة بانهيار صحي سنة 1969 أفقده القدرة على إدارة البلاد بداية من ذلك التاريخ، كانت التوقعات حول مستقبل الحكم في تونس تتجه إلى الحزب الاشتراكي الدستوري ثم إلى النقابات والجيش، وفي مرحلة متقدمة إلى الإسلاميين، وهذا ما أبرزته بوضوح برقيات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية المتعلقة بتونس والتي نشرتها الوكالة للعموم في شهر جانفي 2017 على موقع الوكالة على شبكة الانترنت.
وبصرف النظر عن التحليلات الواردة في تلك الوثائق فإنّها تضمنت معطيات هامة لم تكشف سابقا، وأبرزها ما ورد في برقية مطوّلة بعنوان “تسييس الجيش” حررت في جانفي 1986، إضافة إلى وثيقة في أوت 1986 (احتمالات تدخل الجيش) وأخرى في جويلية 1984 (تموقع الجيش) وفي مارس 1980 (التقلبات السياسية في تونس).
وفي برقية بعنوان “تصاعد الاضطرابات في تونس” يوم 23 ماي 1984 أشارت المخابرات الأمريكية إلى تململ بين كبار ضباط الجيش بسبب استدعائهم لقمع المدنيين وخشيتهم من تجدد ذلك في تحركات متوقعة. وتنقل الوثيقة أنّ مجموعة من الضباط أبلغت الوزير الأول محمد مزالي أنّها لن تستجيب لأي أوامر مستقبلية للتدخل ضد المدنيين.
وتلاحظ المخابرات الأمريكية أنّ مزالي اتجه إثر ذلك إلى تقوية جهازي الأمن والحرس وعزز العنصر البشري في الحرس الوطني كما تقرر إدماج مئات من العسكريين في هذا السلك في شهر مارس 1984.
وفي برقية جانفي 1986 تسجل الوثيقة تنامي اهتمام العسكريين بالقضايا السياسية. وأشير في هذا الصدد إلى تداول معلومات عن محاولة انقلابية عسكرية تأتي في ظرفية تشهد فقدان الرئيس الحبيب بورقيبة ومن هم معنيون بخلافته للشرعية في نظر الناس، وهو ما قد يشجع العسكريين على استلام السلطة.
وتنقل المخابرات الأمريكية تذمّر الجنود التونسيين وأصحاب الرتب المتوسطة من الأجور المتدنّية ونقص المعدّات والتدريب، إضافة إلى وجود مظاهر فساد لدى كبار الضباط.
وممّا أثار قلق العسكريين التونسيين هو وقوفهم على محدودية التجهيزات والاستعدادات لصدّ أي عدوان ليبي خلال فترة التوتر على الحدود بين البلدين بين أوت ونوفمبر 1985، إضافة إلى ضعف قدرات سلاح الجوّ بما مكّن الإسرائيليين من اختراق الأجواء التونسية وتنفيذ اعتداء “حمام الشط” في أكتوبر من نفس السنة، وهي انكسارات يرونها عامل تحقير لصورة الجيش التونسي أمام الرأي العام.
وتتحدث المخابرات الأمريكية في الوثيقة نفسها عن إجهاض محاولة انقلاب عسكري في ديسمبر 1985 وضلوع ضباط وضباط صف فيها، وقد يكون قائد جيش الطيران على علم بها دون أن يشارك فيها، وفق المصدر نفسه. وتشير الوثيقة إلى أنّ المحاولة الانقلابية المزعومة، تعزز صحتها معلومات عن حركة نقل أو إحالة على التقاعد شملت أربعة من كبار الضباط في ظروف غامضة، وجرت في شهر نوفمبر 1985، حسب الأمريكيين. وفي جانفي 1986 تم حل قيادة تدريب الجيش وإقالة رئيسها وتوزيع تلامذة المدارس العسكرية على وحدات مختلفة من الجيش.
وتتوقع الوثيقة أن يكون للجيش دورا نشطا في الحياة السياسية، وتورد دليلا على ذلك، وهو تعاظم دور الجنرال زين العابدين بن علي وزير الداخلية المعتمد لدى الوزير الأول. وشدّد الأمريكيون على “أنّ بن علي في وضع جيّد للطموح إلى السلطة”.
وبالفعل تحققت التوقعات الأمريكية، إن لم نقل الإرادة الأمريكية، ونفّذ العسكري بن علي انقلابا اعتمد فيه بدرجة أولى على مؤسسة الحرس الوطني، وكان يعاضده جنرالان عسكريان هما الحبيب عمار وعبد الحميد بالشيخ. وكان أهم عمل نفّذه بن علي في بدايات حكمه هو سحق المؤسسة العسكرية وإهانتها بأيدي المؤسسة الأمنية في قضايا سياسية قدّم فيها إطارات عسكرية أكباش فداء، فيما عرف بقضية براكة الساحل. كما فقد الجيش الوطني بعد سنوات من ذلك أبرز قياداته في 30 أفريل 2002، في حادث مستراب عند سقوط مروحية بجهة مجاز الباب من ولاية باجة. وأودى الحادث بحياة 13 من أهمّ قيادات الجيش الوطني على رأسهم أمير اللواء عبد العزيز سكيك رئيس أركان جيش البر، بعد خمسة أشهر من توليه المنصب، واثنين برتبة عميد وثلاثة برتبة عقيد وأربعة برتبة رائد واثنين برتبة ملازم ووكيل أوّل.
وتبرز هذه الوقائع أنّ الجيش التونسي كان محلّ أطماع المؤسسة السياسية لتطويعه واستخدامه في ترسيخ النفوذ بتوظيفه أو على حسابه، ومع نجاح الثورة التونسية في الإطاحة برأس النظام، سجّل الرأي العام المحلي والدولي غياب المطامع العسكرية في السلطة، واقتصر تدخل المؤسسة على سدّ الفراغ الأمني دون أي دور سياسي، رغم حث بعض السياسيين أثناء فترات الاضطرابات خلال المسار الانتقالي، للجيش على الوثوب للسلطة. وهو ما لم يحصل. وكان يمكن للجيش التونسي، سنة 2011 أن يلعب دور الجيش الجزائري أو السوداني اليوم، لكنه ترك المجال للسياسيين والمجتمع المدني لإدارة الخلاف.
وقد رسّخ توزيع السلطات ووضع قواعد إدارة السلطة والرقابة على أدائها، بفضل دستور جانفي 2014، أداة حاسمة يحتكم إليها التونسيون في جميع أزماتهم وخلافاتهم، وذلك هو المطمح الذي تتطلع إليه شعوب أخرى عانت ويلات تدخل العسكر في السياسة.
وبوقوف الدولة التونسية ضد عسكرة الدولة في موقفها الرسمي من النزاع الليبي الجاري، يأتي ذلك تناسبا مع مبدأ مدنية الدولة، الذي لا يفهمه البعض إلاّ من زاوية إيديولوجية. ويبقى الحماس إلى الانقلابات العسكرية في دول مجاورة من قبيل النزعات الانتقامية الذاتية من مسار التاريخ المتجه إلى الديمقراطية وتحرير إرادة الشعوب، كما أنّه من قبيل تأثيرات اليأس بفعل الفشل في تحقيق طموحات المواطنين في العيش الكريم، وما يغذّيه ذلك من حنين إلى المستبد الضامن لـ”الخبز”.
قبل الاولى – Avant Première