قبل أن يتحوّل "عبد الفتّاح البرهان" إلى "عبد الفتّاح السّيسي"
صالح التيزاوي
من بديع أمثال العرب قولهم: “المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرّمضاء بالنّار”. وهو مثل يصوّر خيبة من يريد الخروج من شرّ فيقع في شرّ أكبر لسوء تقدير منه. وقصّة هذا المثل أنّ “كليبا” سيّد ربيعة بغى على قومه، بغيا لا يماثله في عصرنا إلّا بغى الحكّام العرب على شعوبهم. فقتل ناقة “البسوس” عمّة جسّاس بن مرّة لأنّها دخلت حماه بغير إذنه، وبالغ في إذلالهم لمّا منع حياض المياه عن إبلهم وأنعامهم حتّى هلكت عطشا. أمّا طغاة العرب اليوم، فقد حرّموا الحرّيّة على شعوبهم وجعلوا حياتهم ضنكا…
لم يستسغ جسّاس بن مرّة الإهانة فعالج كليبا بطعنة غادرة انتقاما لكرامة أهله، وتركه يصارع الموت. وصادف أنّ مرّ عربيّ يدعى عمرو بكليب على حالته تلك، فطلب منه كليب أن يغيثه بشربة ماء قد تبقى على حياته، ولكنّه عالجه بطعنه أجهزت عليه. فصار مثلا يضرب “المستجير بعمرو كالمستجير من الرّمضاء بالنّار”.
هذا المثل ينطبق تماما على حالة الشّعب السّوداني، الذي ضاق ذرعا بحكم عمر البشير رمز الإستبداد والإنقلاب والفشل. لقد حكم السّودان ثلاثين عاما ولم يترك بعد خلعه إنجازا يذكر، سوى تقسيم السّودان وأزمات مستفحلة دفعت الشّعب السّوداني دفعا إلى الثّورة على نظامه وطالبت بإسقاطه، واستعان على تحقيق مطلبه بالعسكر.. لم يتأخّر العسكر في الإستجابة لمطلب المحتجّين، فانقلب على قائده ليصبح بعد أسابيع من الإحتجاجات مخلوعا ومعزولا وغير مأسوف على رحيله.
يأمل الشّعب السّوداني من الإطاحة بالدّكتاتور، أن يجد طريقه إلى حكم مدني وتداول سلمي على السلطة يجتثّ نظام عمر البشير ويقطع مع تاريخ الإنقلابات العسكريّة في السّودان. أمّا ما يأمله المجلس العسكري فهو أمر آخر، إعادة إنتاج حكم العسكر بتدوير الوجوه والقيام بجراحة تجميليّة تفضي في النّهاية إلى الإلتفاف على مطالب الحراك الشّعبي، وكأنّك “ماغزيت يا بوزيد”.. دلّ على ذلك البيان الأوّل، حيث أعلن المجلس العسكري في مناورة مكشوفة عن حزمة من الإجراءات، أخطر ما فيها إعلان مرحلة انتقاليّة بعامين، لا شكّ أنّها سوف تكون كافية حتّى يمكّن العسكر لنفسه.
بين ما يريده الشّعب وما يريده العسكر مسافة كبيرة من انعدام الثّقة، فليس أمام الحراك الشّعبي إلّا التّمسّك بمطلبه في حكم مدني يقصي العسكري من الحكم مهما كان عنوان المرحلة ومهما كانت أسماء العسكر وخلفياتهم، حتّى لا تتبخّر أحلامه تحت أحذية العسكر، وقبل أن يتحوّل “عبد الفتّاح البرهان” إلى “عبد الفتّاح السّيسي”..