عادل بن عبد الله
من أهم الأحداث السياسية التي شهدتها تونس في شهر نيسان (أبريل) الجاري، انعقاد المؤتمر الأول لحركة “نداء تونس” يومي 6 و7 من هذا الشهر بمدينة المنستير الساحلية، وهو المؤتمر الأول الذي يعقده الحزب منذ تأسيسه في 16 حزيران (يونيو) 2012 بقصر المؤتمرات بالعاصمة، وما أعقب ذلك من منحه الترخيص الرسمي من وزارة الداخلية في 7 تموز (يوليو) 2012.
قاطرة المنظومة القديمة
وباعتباره قاطرة المنظومة القديمة والوريث الأبرز للتجمع المنحل ولشبكاته الجهوية والزبونية، مثّل “نداء تونس” منذ تأسيسه جسما “لاوظيفيا” من منظور الثورة واستحقاقتها، ولكنّ طابعه اللاوظيفي Dysfonctionnel الذي أكدته المبادرات التشريعية الحكومية والرئاسية، لم يمنعه من احتلال صدارة المشهد السياسي، عندما فاز في الانتخابات الرئاسية والتشريعية سنة 2014.
ورغم الانشقاقات التي عرفتها حركة نداء تونس، خاصة انشقاق “مشروع تونس” بقيادة محسن مرزوق وانشقاق “تحيا تونس” بقيادة رئيس الوزراء الحالي يوسف الشاهد، ورغم فقدان “نداء تونس” لأغلبيته النيابية، ظل هذا الحزب رقما صعبا في المشهد السياسي التونسي. ولا تأتي أهمية “نداء تونس” فقط من ارتباطه برئيس الدولة وابنه، ولا من انتماء بعض الوزراء وكبار المسؤولين إليه، بل تأتي أهميته أساسا من أنه التعبيرة الحزبية عن بنية سلطوية جهوية، مازالت تجد نواتها الصلبة في جهة الساحل، وفي المنتمين إلى ما يُسمّى بلْدية العاصمة. إنها بنية سلطوية تمتد جذورها إلى مرحبة تأسيس “الدولة ـ الأمة” التي كانت في الحقيقة مجرد استعارة للمركب الجهوي ـ المالي ـ الأمني، أو مجرد مجاز يُخفي حقيقة الدولة الزعيم ـ الحزب ـ الوطن في اللحظتين الدستورية والتجمعية من حكم تونس قبل الثورة.
الميراث التجمعي
عندما ظهر حزب “نداء تونس” بقيادة الباجي قائد السبسي، كان من الواضح أن مشروعه الأساسي هو الحيلولة دون رسوخ مسار الانتقال الديمقراطي، بطريقة تقطع مع المنظومة القديمة ورموزها ومصالحها وآليات اشتغالها، وكان من الواضح أيضا أن إعادة تشغيل السردية البورقيبية هي المدخل الملكي لشرعنة الميراث التجمعي (الحزب الحاكم قبل الثورة)، وما يرتبط به من شبكات تبادل المصالح والرعاية المتبادلة.
وسواء قبل الوصول إلى الحكم أو بعده، كانت استراتيجية المنظومة القديمة لإعادة التموقع والانتشار تتم في مسارين مترابطين أشرف عليهما “نداء تونس” بمفرده قبل الانتخابات وتحت غطاء التوافق بعدها، ثم أشرف عليها بمساعدة ما انشق عنه من تشكيلات حزبية آخرها “تحيا تونس”:
ـ المسار الأول هو ترذيل الثورة والانقلاب على كل مخرجاتها (إسقاط الترويكا وما مثلته ـ رغم الاحترازات الوجيهة على أدائها ـ من تجربة تقدمية في الاحتكام إلى سلطة الناخبين، وإظهار إمكانية الحكم المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين بعيدا عن منطق الاستئصال أو التكفير، تغذية الصراعات الهووية لحرف الأنظار عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية، استهداف مسار الانتقال الديمقراطي بضرب هيئة الحقيقة والكرامة، وتعطيل إرساء المحكمة الدستورية ومحاولة تدجين الإعلام وتحزيبه، تحول الرئيس ـ من رئيس لكل التونسيين كما يفترض به أن يكون ـ إلى رئيس طبقات وجهات معينة، بل تحوله إلى رئيس “عائلة” تحاول السيطرة على مصير الدولة عبر ابنه).
ـ المسار الثاني هو إعادة تشغيل الرأسمال البشري والرمزي لنظام المخلوع بن علي، وهو ما دفع بالعديد من التجمعيين إلى واجهة السلطة التشريعية والتنفيذية بمختلف مؤسساتها، وهي اللحظة الانقلابية الثانية على المسار الديمقراطي. فالمنظومة القديمة احتاجت إلى المخاتلة وإلى عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الشعب، لذلك عمدت إلى الاستعانة في المرحلة التأسيسية بالعديد من الوجوه اليسارية التي كانت محسوبة على المعارضة، والتي كانت في الحقيقة تخدم ـ بوعي منها أو بلا وعي ـ الاستراتيجية الانقلابية في لحظتها الأولى.
وبحكم أن تلازم المسارين كان خيار المنظومة القديمة كلها بصرف النظر عن واجهاتها الحزبية، فإن الانشقاقات التي حصلت في “نداء تونس” لم تمنع من استمرار التلازم، لكن بصيغ أكثر ارتباطا بالسياقات والتوازنات الداخلية والخارجية الجديدة. فتمرد رئيس الوزراء يوسف الشاهد وتأسيسه لكتلة برلمانية مستقلة ـ إضافة إلى نيته تأسيس حركة “تحيا تونس” التي أودع ملفها القانوني يوم 20 شباط (فبراير) الماضي، لم يعن يوما فشلا لاستراتيجية المنظومة السابقة، ولا ظهور تهديد جدي لمصالحها المادية والرمزية، بل كل ما يعنيه هو ظهور مركز قوى جديد منافس للباجي قائد السبسي، ولِما تبقى من حزبه بقيادة ابنه حافظ قائد السبسي. ولكنه مركز قوى ينتمي إلى النواة الصلبة لمنظومة الحكم ولا يمثل أي خطر على مصالحها في الداخل والخارج.
سياسة احتواء في غير وقتها
ورغم ما أظهره الباجي قائد السبسي من تقرب لرئيس الوزراء، حيث دعا المؤتمرين إلى رفع التجميد عن عضويته في نداء تونس، من المرجح ألّا يكون لهذه الاستراتيجية “الاحتوائية” أي أثر تنظيمي على شخص يوسف الشاهد وعلى المحيطين به في إطار مشروعه الحزبي الجديد. فمن المعلوم أن حزب “تحيا تونس” سينظم عمليته الانتخابية القاعدية في مستوى المحليات ما بين 13 و21 نيسان (أبريل) الجاري، وسيعقب ذلك فرز الأصوات على المستويات المحلية والجهوية والوطنية ما بين 22 و28 نيسان (أبريل) من هذا الشهر. وهو ما يعني استحالة عودة الشاهد ومن وراءه إلى “نداء تونس”.
ولا شك في أن فرضية التحاق النداء بالحزب الجديد أو اندماجه معه هي أيضا فرضية صعبة، بحكم بقاء أسباب الخلاف، بل تعمقها بعد انتخاب حافظ قائد السبسي عضوا في اللجنة المركزية، وبعد رسوخ فكرة “الحزب ـ العائلة” بانتخاب صهر الرئيس معز بالخوجة في اللجنة المركزية عن قائمة التنسيقية بالخارج، وما أعقب ذلك من احتجاجات حتى من لدن بعض القيادات الندائية التي طعنت في مخرجات المؤتمر بصور متباينة الحدة.
استحالة الاندماج
إن استحالة الاندماج بين “نداء تونس” والحزب المنتظر لرئيس الوزراء المدعوم بكتلة “مشروع تونس” وببعض المنشقين من الأحزاب اليسارية والليبرالية، لا يعني استحالة تشكيل جبهات انتخابية في المستويين التشريعي والرئاسي. فالقوى الإقليمية والدولية الحريصة على استمرار السلطة بين أيدي وكلائها التقليديين منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، ستعمل على تجميع هؤلاء الوكلاء لا لمواجهة “النهضة”، كما يدعي “نداء تونس”، بل لتحجيمها وابتزازها قصد إدراجها في منظومة الحكم، أو بالأحرى في السياج الحزبي الذي تحتاجه المافيات الجهوية والزبونية الحاكمة لممارسة سلطتها في إطار قانوني، وبواجهات حزبية ذات تمثيلية شعبية واسعة.
ختاما، يمكننا القول إن مؤتمر “نداء تونس”، الذي انعقد في مدينة المنستير، في إطار مغازلة واضحة لمنطقة الساحل وما يعنيه ذلك من استمرار الرمزية البورقيبية والمصالح الجهوية المرتبطة بها، سينجح فقط في تأكيد زعامة ابن الرئيس الذي سيضع يده على الحزب بطريقة “ديمقراطية”، ولكنه لن ينجح في توحيد الحزب واستعادة الشقوق، خاصة شق “تحيا تونس” (ومن باب أولى شق “مشروع تونس”، الذي تأكد ولاء زعيمه محسن مرزوق لرئيس الوزراء وإمكانية التحاقه به في حزبه).
ولكن التشتت التنظيمي للقوى “التجمعية ـ الجديدة” لا يعني استحالة توحّدها في جبهات انتخابية، أو تَوحّدها في حكومة سيكون برنامجها الأساسي هو تمرير إملاءات الجهات المانحة ومنع أي احتجاجات جذرية على سياسات الحكومة، وهو أمر لا يمكن حصوله إلا بنجاح المنظومة على واجهتين؛ أما الواجهة الأولى فهي الاستعانة بحركة “النهضة” قصد السيطرة على الشارع وإفراغه من أهم قوة احتجاجية ـ، وذلك بتوظيف مخاوف الحركة من الاستئصال ومن القوى الخارجية المعادية للإسلام السياسي ـ وأما الواجهة الثانية فهي توظيف اليسار الثقافي، وما يدور في فلكه من منظمات نقابية ومدنية مازالت محكومة بمنطق “التناقض الرئيس” (مع الرجعية الدينية ممثلة في حركة “النهضة”)، والتناقض الثانوي (مع الرجعية البرجوازية ممثلة في ورثة التجمع ومن وراءهم من اللوبيات الجهوية ـ الأمنية ـ المالية).
عربي21