بين التحصيل والنقد وإنتاج المعرفة
زهير إسماعيل
في مجال البحث العلمي والدراسات المنهجية في الجامعات ومراكز البحث المتخصصة التي تتبع الجامعات أو المستقلة عنها يمكن التمييز بين ثلاث مستويات/مراحل :
التحصيل، والنقد، وإنتاج المعرفة.
ونعني بالتحصيل أن يلمّ الطالب وبدرجة أكثر الباحث الأكاديمي والمدرّٰس الجامعي بمادة موضوعه أو درسه داخل اختصاصه، ويكون انفتاحه المُسَدَّد على اختصاصات أخرى عامل إغناء مهم.
هذا الانفتاح هو الذي يساعد على بلوغ مستوى النقد بما هو امتلاك لنظرة كلية عن الموضوع وربما إعادة بناء جوانب منه، وفي ذلك أخذ مسافة من “الأطروحة السائدة”، في أي مبحث كان. من ذلك مثلا أن ننقد موقف الغربيين من تراثنا اللغوي والنحوي، وجوهره أن النحو العربي في عمومه صدى للدرس النحوي اليوناني. فنجتهد في الإبانة عن النشأة الأصيلة للنحو العربي. أمّا المستوى الثالث فهو أن ننتج معرفة نحوية عن تراثنا تكون مقدمة لـ”لنظرية نحوية” نسهم بها في المجهود العلمي الإنساني. ولا خلاف في أنّٰ مرحلة “إنتاج معرفة” دونها مراحل بعيدة وشروط عديدة، ولكنها تبقى إمكانا وغاية يجب أن نجري إليها.
أو أن ننقد موقف المستشرقين من تراثنا السياسي وهويات الانتظام التي عرفها. ويمثل نصهم فينا تحديا حقيقيا رغم استسهال كثير من مفكرينا وأكاديميينا “نقده” بالجملة. وإذا كان جوهر هذا الموقف تصنيف تجربتنا التاريخية ضمن “تجارب ما قبل الدولة” مع ما يصاحب هذا الحكم من مواقف معيارية قد تصل إلى الحكم على تجربتنا السياسية بـ”طفوليتها” و”سجاذتها الحضارية” و”غياب العقل عنها”، كي لا نقول “همجيتها”. وهو موقف يستند إلى تراث الغرب في الفكر السياسي و”نظريته في الدولة” قد يصل، بتأثير من الزهو بما فتح من مجالات للمعرفة مبهرة، إلى الزعم بامتلاك “كليات في الانتظام السياسي” تَنْظم كل التجارب على اختلافها.
مرحلة نقد هذا الموقف والاجتهاد في تنسيب “كلياته” مهم، ويُتوقع أن يحوم النقد الجاد منه، على قلّته، حول أنّٰ تجربتنا التاريخية في الحكم لا تخرج عن فكرة الدولة ولها تعاقدها التاريخي ومنطقها الخاص في إدارة الانقسام، وكل هذا لا يخرج عن مقدماته النظرية… أمّا المستوى الثالث فإنّه ينتظر أن يعيد النظر في هذه المقدمات. كأن يُنبّه إلى تمفصلها مع “النص الغربي المؤسس” (اليهو – مسيحي)، الذي لم تُخْفِه المحاولات الفذة في ترجمته إلى مفاهيم إنسانية (تشبه المحاولة المقاصدية في تراثنا الأصولي)، مع الهيغلية والماركسية والفيبرية.
وهو ما يسمح بالإشارة إلى أنّٰ الدولة، كما ظهرت في الغرب الحديث، فكرة دينية حلولية سليلة “الوساطة” باعتبارها جوهر المسيحية المتأخّرة. وهذا مدعاة لاضطراب ثنائية “الدولة الدينية” و”الدولة المدنيّة”، فالدولة وسيط تكلم باسم الاله بداية ثم ناب عنه (موت الإله وميلاد الإنسان (=تألّهه) ترجمة لفكرة حلول الله في الإنسان: يسوع الرب)، فمفهوم “الإنسان الكامل” في أطواره الفلسفية الحديثة المختلفة وصياغته المتأخّرة (نيتشة) فكرة مسيحية.
والإصلاح الديني والفلسفي الذي عرفته أوروبا انطلاقا من القرن السابع عشر حدس هذه المعاني، ولولا التعصب الديني لاكتشف أنّٰه يستعيد الإصلاح المحمدي باعتباره “إصلاحا سياسيا” بالأساس قوامه “نفي الوسيط” (عماد التوحيد) وفتْح التاريخ (بدل غلقه والقول بنهايته) على هويّات انتظام ليست الدولة إلا إحدى أشكالها. هذا الأفق قد يسمح بإنتاج “معرفة سياسية”.. وقس على ذلك في مجال بقية العلوم والاختصاصات.
جامعتنا اليوم ومراكز البحث عندنا لا تكاد تغادر التحصيل إلى النقد إلا قليلا، وأمّٰا شروط إنتاج المعرفة فتبدو غائبة إلى حدّ الآن…
أقول قولي هذا وأنا طالب العلم في نهاية عقده السادس، لم يمنعه نصيبه القليل من “التحصيل” وخلو وطابه من أدوات “النقد وسلاحه” من الانتباه إلى أهمية “إنتاج المعرفة” في الجامعات ومراكز البحث والعلم ودورها في نهضة المجتمعات.
إنتاج المعرفة قرار سياسي سيادي يبدأ مع الثقة بالنفس… بالإنسان واللسان والميزان…