في الخطاب الاجتماعي للجبهة الشعبية
سفيان العلوي
تلح الجبهة على لسان الناطقين باسمها أو باسم الأحزاب المكوّنة لها على “الشغل” و”الحرية” و”الكرامة” (الشعار المعروف: شغل حرية كرامة وطنية) و”العدالة الاجتماعية” و”التنمية” وحق”الجهات المحرومة” و”حق الزوّالي” و”رفض المديونية”. واستطاعت من خلال إتحاد الشغل أو المسيرات التي تنطلق تحت مظلته أن تؤثث بها أجندة الاحتجاج. ولئن كان الخطاب الثقافي اليساري يتحرك داخل الأطر الثقافية والجمعيات وله جمهور نخبوي فان الخطاب الاجتماعي له قابلية انتشار واسعة إن كان من حيث الجمهور المعني (عامة الناس.. العمال.. الخ) أو الأماكن (مواقع العمل.. النقل.. مواقع الخدمات العامة (كالبريد أو الصحة..) والإعلام المكتوب والسمعي البصري في كل هذه المواقع يقع التركيز بالتكرار على مسائل بعينها كالإلحاح على “غلاء الأسعار” أو “غياب الأمن” و”الإرهاب” أو “انتشار الفضلات” أو “التعيينات الحزبية” أو “الفشل” و”الخيبة”. إستطاعت الجبهة من خلال هذا الخطاب التسويق لنفسها كالأقرب للشعب وتجرئة الشارع على السلطة تمهيدا لتهرئة شرعيتها ودفع الناخب إلى تغيير نوايا تصويته بالأساس نحو “عقاب انتخابي للنهضة” باعتباره الحزب الاغلبي الفائز بانتخابات 23 اكتوبر ثم الثاني في 2014 وتمرير نفسها كبديل للنظام القديم و للنهضة على حد السواء.
يقول عادل حسين المفكر المصري (كان ماركسيا) بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ودخول اليسار العالمي في مراجعات جذرية على غرار يسار أمريكا اللآتينية “لقد سقطت الماركسية وبقيت الدعوة إلى العدالة الاجتماعية”. ومن هذه الزاوية تقف الجبهة على أرضية فكرية “قوية” راهنت طويلا على المسألة الاجتماعية لكنها لم تراجع مقولاتها وعلاقة النظرية بالواقع وتغير سياقاته وخاصة فيما يتعلق بالحلول المقترحة للنهوض بالمسألة الاجتماعية. فعند سؤاله عن الحلول للتشغيل ودفع التنمية يحصر حمّة الهمامي المدخل لجلب الأموال الضرورية للتنمية و التشغيل في: التوقف عن “دفع ديون تونس القديمة” و”جلب الأموال المنهوبة من الخارج” و”فرض ضريبة على البرجوازية”. وكأن هذه الحلول متاحة للتطبيق الآن وهنا وفورا.
في الواقع يثير الخطاب الاجتماعي للجبهة هواجس فعلية لدى الفئة الميسورة والبرجوازية من رجال الأعمال و إن استهوى بعض أبناءها من باب الترف الفكري أو “الانسلاخ الطبقي” (بلغة الماركسية) أو حتى “الموضة” أو القناعة الثقافية. هنا يتحرك الخطاب الثقافي للتخويف من صعود الإسلاميين وتشغيل أسطوانة “الخوف على النمط المجتمعي التونسي” و”مكاسب الحداثة” و”مكاسب المرأة ومجلة الأحوال الشخصية” و”الرفاهية الاجتماعية” وخطر “تقسيم المجتمع التونسي”. يتيح هذا الخطاب للجبهة الشعبية ولليسار عامة استعادة تعاطف الطبقة البرجوازية وتبديد مخاوفها من الخطاب الاجتماعي. ربما هذا ما يفسّر ذلك التقارب الاجتماعي الهجين الذي حصل في اعتصام الرحيل بباردو. تقارب لم يكن ليمرّ دون مسرحة للتضامن الإجتماعي وازدراء ومسافة نقدية وحتى انسحاب لليسار الاجتماعي المناضل خاصة القادم من المناطق الداخلية (من سيدي بوزيد وغيرها).
لمن تتوجه الجبهة بالخطاب الإجتماعي؟ هو خطاب موجه بالأساس للفئات الضعيفة التي لا تلقي بالا للخطاب الثقافي ولا تساوم على هويتها الدينية والحضارية العميقة. وهو أيضا خطاب يتجه للطبقة الوسطى التي ارتفع سقف الاستهلاك أمامها بفعل سلوك البرجوازية التونسية التفاخري والانفتاح السياحي والإشهاري والإعلامي لتونس مقابل تجميد مبرمج للأجور منذ عقود وإنعاش صناعي ومحسوب للاستهلاك عبر المديونية الأسرية المشطّة (قروض السكن والسيارة والاستهلاك). لم تكن زيادة الأجور الاستثنائية لما بعد الثورة (زيادة بـ 40% في كتلة الأجور بين 2011 و 2013)، رغم ضرورتها، سوى سبب مباشر في التضخم المالي وما يصحبه من تدهور للمقدرة الشرائية. ولهذا تشعر هذه الطبقة الوسطى بغبن اجتماعي في الوقت الذي ترى نفسها قد غادرت الطبقة الضعيفة. أتاحت الثورة لهاتين الفئتين (الطبقة الضعيفة والوسطى) التعبير عن مشاكلها بشكل غير مسبوق. وقاربت بينهما ميدانيا من باب الضرورة أو التضامن الاجتماعي و السياسي. ولذا تراهن الجبهة الشعبية على هذه الفئات برفع سقف مطالبها وتاجيج حدة مطلبيتها واستثمارها سياسيا تهيئة للعقاب الانتخابي للنهضة وإعادة بناء شرعيتها هي كاحزاب ناطقة باسم هموم الناس.
تتهم الجبهة الشعبية منافسيها بازدواجية الخطاب والواقع أنها ذهبت أبعد من ذلك حيث أظهرت في أكثر من مناسبة انقلابا على خطابها (الجبهة أو مكوناتها) من ذلك التنكر للمجلس التأسيسي الذي دعت إليه هي في القصبة عندما أفرز تشكيلة نيابية تمثيلها فيه ضعيف أو محدود وتراجعها عن مطلب “النظام البرلماني” عندما تمسّكت به النهضة وتنكرها لتفعيل العفو التشريعي العام عندما وجدت أن طرفا منافسا لها سيستفيد منه أكثر منها مضحية حتى بمصلحة بعض عناصرها المناضلة التي نالت نصيبها من السجن والتهجير والطرد من العمل وتنكرها لروابط حماية الثورة التي ساهمت في تأسيسها بعض مكونات الجبهة وانسحبت منها عندما أصبح تمثيلها فيها أقلي. كما انقلبت على “النظرية الاشتراكية العلمية” (الماركسية وأفكار الصراع الطبقي) عندما اختارت التحالف مع البرجوازية و”الكمبرادور” لتصفية خصم سياسي يقف على نفس الأرضية الطبقية التي تقف عليها ويؤمن بالعمل النقابي وبالديمقراطية وهذا ما أغضب قطاعات يسارية واسعة بداخلها خاصة من التروتسكيين (رابطة اليسار العمالي). وانحازت إلى أطباء الاختصاص في إضرابهم لتعطيل تمرير قانون التوجيه للمناطق الداخلية بعد التخرج وقبل الانتصاب للحساب الخاص وأصدرت بيانا في ذلك، وساهمت بذلك في إجهاض إجراء قانوني كان يمكن أن تستفيد منه المناطق المحرومة لتعديل واحد من الإختلالات المجالية العميقة ألا وهو مجال الصحة. وانقلبت على روح الثورات العربية عندما ساندت الانقلاب في مصر وحاولت أن تجد له غطاءا ثوريا وشعبيا موهوما وعندما ساندت المجازر التي يقوم بها النظام السوري بل إن صور بشار الأسد رفعت أكثر من مرّة في ساحة محمد علي وتظاهرة الأربعاء الأسبوعية التي تنظمها الجبهة لكشف قتلة شكري بلعيد وفي عيد الثورة. من الناحية السياسية، يعتبر تغير الخطاب إلى درجة الانقلاب على مضامين سابقة براغماتية سياسية حيث يكون الحكم دائما على النتائج. كما أن الحرج الأخلاقي له في النظرية ما يسمح بتجاوزه. أما “العنف الثوري” فيجد مداه في الحشد وفي بث الفوضى عندما تكون مطلوبة لتغيير شروط التفاوض أو قانون اللّعبة.
من جهة المنافسة السياسية، لقد رهنت الجبهة الشعبية مصداقيتها لأجل تثبيت وجودها كقوّة يسارية في المشهد السياسي التونسي لما بعد الثورة وتغيير معادلاته لما بعد انتخابات 23 أكتوبر، لكن ضعف قدرتها على التحرك الفردي وتراجع قدرتها على تحريك الجهات كما كان الرهان داخل جبهة الإنقاذ وعلى هامش اعتصام الرحيل ولجوئها للعنف (تورط قيادات محلية في التحريض على حرق مقرات الأمن ومقرات الأحزاب ومنها النهضة) جعل هذه المصداقية في الميزان. من السهل التدليل على تهافت الخطاب الثقافي للجبهة واستخدامه في المناورة السياسية لشيطنة خصومها من الإسلاميين وحلفائهم بما تمخض عنه الدستور في النهاية من حماية المكاسب المجتمعية وتعزيزها والقطع مع الاستبداد وطمأنة الرأي العام الداخلي والخارجي وما أظهره الطرف الإسلامي من حرص على استكمال الدستور والمسار التأسيسي برمته في الوقت الذي راهنت فيه الجبهة على الانقلاب تحت مسمّى “الإنقاذ” أو استئناف الثورة”. يبقى الخطاب الاجتماعي عنصر قوة فعلي للجبهة بالنظر إلى تموقعاتها الحالية في النقابات والإعلام وضعف النمو الاقتصادي وتدهور المقدرة الشرائية بفعل مباشر للتضخم وتعثر تنزيل المشاريع المبرمجة للجهات. فبعد حسم الخيارات الثقافية والسياسية الكبرى عبر الدستور سيكون مدار المنافسة السياسية المقبل بالضرورة المسألة الاجتماعية، ومدى قدرة الأحزاب والمجتمع السياسي على التعاطي معها بواقعية وتقديم حلول ناجعة لتجاوز التضخّم المالي ومفاعيله السلبية على المقدرة الشرائية وحفز الاستثمار والتشغيل.